صحيح أنّ السودانيين، على إجمالهم تعرّضوا لمضايقات وتنكيلٍ من حكومة الإنقاذ، ذات التوجّه الإسلاموي، والتي انتهتْ بثورة شعبيةٍ سلميّةٍ، انطلقتْ في كانون الأول/ديسمبر 2018، وانتهت في نيسان/أبريل من العام 2019.
لكن أقليّة الأقباط في السودان، أحد أكثر المجموعات الاجتماعية التي نالها تضييقٌ إضافي من حكومة الإنقاذ. مضايقاتٌ في ممارسة الشعائر الدينية، والسوق، والتعليم. وهي مضايقاتٌ لها مثيلها في التاريخ الاجتماعي لأقلية الأقباط، في تاريخ السودان البعيد.
فما هو حال الأقباط بعد الثورة وإسقاط نظام الإنقاذ؟
العسف والتضييف الكبير لأقليّة الأقباط في السودان، لخّصه فيديو منشور على موقع يوتيوب، قبل سنوات، يظهر فيه الصيدلاني القبطي: نصر مُرقص، رئيس شُعبة الصيدليات، يتحدّث فيه بصراحة -غير معهودة عن أقباط السودان
ليس هناك تاريخٌ ثابتٌ وواحد للأقباط السودانيين، فالراجح والمتردّد؛ أنّهم دخلوا السودان في القرن الرابع الميلادي، لكن أثرهم بدأ يتضح في العهد التركي: (1821-1881)، والمهديّة (1881-1898). حيث برزت العديد من الأسماء، في مجالات الإدارة والحسابات والتعليم.
وبذات القدر من عدم الثبات، ليست هناك تقديراتٌ محددةٌ لأعدادهم في السودان، لكن الراجح أيضًا أنّهم بالآلاف، أو على تُخوم المليون نسمة، يتوزّعون في مدن السودان الكُبرى، مثل: الأبيض وكسلا وعطبرة. لكنهم يتركّزون في الخُرطوم بمدنها الثلاثة، وفي أحياء بعينها من هذه المُدن.
اقرأ/ي أيضًا: بعد خلافات بينهما.. وزير الداخلية يطلب من حمدوك إقالة مدير الشرطة
العسف والتضييف الكبير لأقليّة الأقباط في السودان، لخّصه فيديو منشور على موقع يوتيوب، قبل سنوات، يظهر فيه الصيدلاني القبطي: نصر مُرقص، رئيس شُعبة الصيدليات، يتحدّث فيه بصراحة -غير معهودة عن أقباط السودان- عن العسف الشديد الذي لاقاهُ الأقباط من سياسة الإنقاذ، في الاقتصاد والممارسات الشعائرية الدينية.
نصر مرقص، أحد قيادات الأقباط، ورئيس شُعبة الصيدليات الخاصة، يرى بأنّ الإنقاذ عندما جاءتْ في العام 1989، عبر انقلاب عسكري، كان طابعها العسف والظلم والتضييق لكل السودانيين. إلا أنّ تضييق الإنقاذ على الأقباط كان ممنهجًا، ومن ذلك -بحسب مُرقص- حيث كان القبطي جرجس، من أوائل الذين أعدمتهم الإنقاذ، بجانب حالة التجييش والهياج الديني الكثيف، لعضوية تنظيم الإخوان المسلمين. حيث امتلأتْ خطاباتهم، وأحاديثهم بسبْ النّصارى والصليبيين، في معرض إظهار معاداتهم للولايات المتحدة الأمريكية.
بل إنّ مُرقص في ذات التسجيل الاحتجاجي المشهور، يقول بأنّ الأقباط تم التضييق على فتياتهم في العمل العام، وفي التعليم، حيث كان شرطًا تغطية الرأس، ولبس الملابس الطويلة، وهو ما لم تعتد عليه القبطيات في لبسهن. ما يضعهن مباشرةً تحت سيوف قوانين النظام العام.
الآن، الوضع اختلف كثيرًا، بحسب إيليا وليم، الذي يُشير إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية، لم ترفع اسم السودان من قائمة الدولة المثيرة للقلق في الحريات الدينية، إلا نتيجة للحريات الكبيرة التي يتمتع بها جميع السودانيين الآن، بما فيهم أقلية الأقباط.
ذات النقطة، إزالة اسم السودان، قبل أيام من قائمة الدول المثيرة للحريات الدينية، من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، هي ما استند إليها الدكتور عمرو عباس، الباحث والمهتم بقضايا المجتمع السوداني، يقول في حديثه لـ"الترا سودان" بأنّ واحدة من أسباب هذه الإزالة هي تعامل الحكومة الانتقالية مع الأقليات الدينية والمجتمعية في السودان، ومنهم الأقباط.
اختيار القبطية رجاء نيكولاي عبد المسيح، عضوًا بالمجلس السيادي الانتقالي، ليس الجديد وحدهُ لدى أقليّة الأقباط في السودان -المعروف عنهم حذرهم في التعامل مع الآخرين، وقصره ما أمكن عليهم- بعد الثورة، وإنما الكثير، يأتي في مقدمة ذلك، المشاركة البيّنة لهم في الحراك والاحتجاجات التي تبلورت إلى ثورة مكتملة أطاحتْ بحكم البشير. وفي مشاركتهم مع بقية السودانيين في اعتصام القيادة العامة في جميع مراحل الثورة منذ نيسان/أبريل وأيار/مايو وحزيران/يونيو 2019.
اقرأ/ي أيضًا: قانون مقترح للشرطة يعزز سلطات وزير الداخلية.. التفاصيل الكاملة!
كما يذكر النّاس الصور التي تمّ تداولها لأقليّة الأقباط وهم يحرسون المسلمين السودانيين أثناء تأديتهم لصلاة الجمعة في ساحة الاعتصام، وكذلك مساهمتهم في إفطار الصائمين من المعتصمين.
وكما يتفق المتابعون لتاريخ وواقع مجتمع الأقباط في السودان، على أنّ هناك الكثير من الاختلاف في أقلية الأقباط بعد ثورة كانون الأول/ديسمبر، فإنّ إيليا روماني، الناشط القبطي، بوسائل التواصل الاجتماعي، يرسم صورةً مشرقة، باعتبار إنّ تحولًا كبيرًا طرأ فيما يخص الأقباط السودانيين، ويُشير إلى جملة من الوقائع، أبرزها أنّ تعامل الحكومة مع الأقباط طوال العقود الماضية كان تعاملًا شكلانيًا، لكن ما يحدث الآن مع حكومة الثورة الانتقالية، هو تعاملٌ فعلي.
ويضرب روماني، وهو يتحدث لـ"الترا سودان"، الأمثلة بعددٍ من الوقائع، منها: "إعادة حكومة الثورة مدرسةً بمدينة بورتسودان إلى الكنسية القبطية الأرثوذكسية، بعد أنْ كانت مصادرةً لسنواتٍ طويلةٍ. هذا بجانب صدور قرارٍ من رئاسة مجلس الوزراء، بإلزام وزارة التربية والتعليم، بعدم إجراء امتحانات رسمية في الأيام المعروفة باعتبارها أعيادًا مسيحية. بالإضافة إلى أنّ الدوام اليومي للعمّال والموظفين في القطاعين الخاص والعام، ينتهي أيام الآحاد، عند العاشرة صباحًا، حتى يتمكّن المسيحيون من تأدية صلواتهم، فيما تبقى من يوم الأحد".
وقد عانى الأقباط من العنف الممارس ضدّهم من قبل الحكومات، في تاريخ السودان بعد الاستقلال، أو حتى في العهود التي سبقت استقلاله. لكن متابعين يُشيرون إلى أنّ أكثر عهدين لقي فيهما الأقباط عسفًا وتضييقًا هما: عهد المهدية، وعهد الإنقاذ (1989-2019).
ولا ينسى المتابعون الإشارة بطرف إلى فترة حكم الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري (1969-1985)، الذي شهدت بدايته ما عُرف بقرارات التأميم والمصادرة في العام 1970، والتي طالتْ عددًا من الرموز الاقتصادية السودانية، التي تنتمي إلى أقلية الأقباط، وغيرهم. شركات مثل: شركة جلاتلي هانكي، سودان ماركنتايل، كوتس.
اقرأ/ي أيضًا: حمدوك: سنقيل والي غرب دارفور ونكلف حاكمًا مدنيًا.. واتجاه لاستبعاد "الدومة"
لم تقتصر المضايقات التي تعرّض لها الأقباط، في بداية عهد جعفر نميري فقط، وإنّما تواصلت حتى نهاياته أيضًا، فقد أعلن في آخر سنتين من عهد تطبيق ما سمي بقوانين الشريعة الإسلامية، في العام 1983 بل صار يُلقّبُ بـ "إمام المسلمين"، فيما تعسّفتْ قوانينه الناجزة على غير المسلمين، وأقلية الأقباط منهم.
يعود د. عمرو عباس، فيُشير إلى أنّ الجديد فيما يخص أقلية الأقباط بعد الثورة، هو مساحة الحريات، بعد ما كان التضييق بالنسبة لهم هو السائد. ويستدل بتخصيص القناة القومية "تلفزيون السودان"، مساحةً لنقل ترانيمهم الكنسيّة بشكلٍ أسبوعي. ويستند د. عمرو عباس، إلى الواقع المشرق للأقباط، فيتنبأ بأنّ وضعهم مستقبلًا سيكون أكثر إشراقًا، بل -برأيه- سيكون التعويل عليهم كبيرًا، أشبه بالتعويل الذي كان عليهم في فترة ما بعد الاستقلال، حيث كان الأقباط النواة الأساسية للخدمة المدنية والقطاع الخاص في غالب مدن السودان، مثل عطبرة، وبور تسودان.
ويُنسبُ للأقباط السودانيين المساهمة في عدد من المجالات بالسودان، مثل: الرياضة، والثقافة والفن، والسياسة، والتعليم، مع تركيزهم كثيرًا في الاقتصاد. لكن بذات البروز في هذه المجالات، لم يُعرف عنهم اهتمامٌ بالسياسة إلا فاترًا، ويكاد يُصنّف في خانة المنعدم. بالرغم من لمعان أسماء قبطية عديدة، في السياسة والعمل العام، مثل: جوزيف سدرة، وزير الصحّة في واحدة من حكومات جعفر نميري، ومؤخرًا عضوة المجلس السيادي الانتقالي رجاء يوسف نيكولاي.
هذا الفتور الشبيه باعتزال الأقباط للعمل العام والسياسة، يُرده إيليا روماني إلى سببين: المناخ السياسي الذي أفرزته الإنقاذ، وهي المستعدي لأصحاب الديانات المخالفة للدين الإسلامي، وكذلك الآراء والأفكار المخالفة لآراء وأفكار الإخوان المسلمين. أما السبب الثاني بحسب إيليا، فهو مرتبط بالأول، وهو انشغال الأقباط بالعمل الاقتصادي، بشكل كبير. وهو ما ساعد تبعًا في غيابهم عن الاهتمامات والمجالات الأخرى.
اقرأ/ي أيضًا
ذوو الإعاقة بالسودان.. طَرْقٌ مستمر على القضايا وآمال في استجابة الحكومة
العاملون بمستشفى "الذرة".. وحيدون في مواجهة الإصابات والفصل التعسفي