في مثل هذا اليوم من عام أحد عشر وألفين، صعد رئيس جمهورية جنوب السودان، سلفا كير ميارديت منصة الاحتفال التي أعدت لإعلان قيام الدولة الوليدة. تحدث كير في خطابه عن الظلامات التاريخية والمرارات، وتوقيع اتفاقية نيفاشا، كتسوية إطارية لإنهاء عذابات الحروب الأهلية، والتطلع لإنجاز الاستفتاء وما بعدها، من بناء مؤسسات الدولة، وتأكيد الهوية المستقلة وقضايا التنمية والأمن والمصالحة. باختصار احتوى الخطاب رسالتين، الأولى، التذكير بتجارب التاريخ القريب، من سقوط الشهداء رجالًا ونساءً وأطفالًا وكهولًا، دفاعًا عن فكرة الوطن المنشود وهم يحلمون بغدٍ مشرق. أما الثانية، تعلقت بالمستقبل وتحدياته.
تجلت الأزمة في التنظيم الحاكم، عندما أعلن أربعة من قياداته، عن عزمهم المنافسة على منصب رئاسة الحزب كخطوة أولية لضمان مقعد رئاسة حكومة الدولة
بعد سنتين من هذا الخطاب، تحطمت الآمال باصطدام اعضاء الحزب، إثر الإخفاق في تلبية وعود التنمية والاستقرار والحرية في أعقاب تجدد الاقتتال وانشقاق الحركة الشعبية الحاكمة إلى ثلاثة أجنحةٍ متصارعة في كانون الأول/ديسمبر 2013، نتيجةً للسياسات العرجاء، حيث صار منهج نخبها التبرير لتوسل طاقات الشعب عبر استدعاء الذاكرة الجماعية أو استخدام وسائل الإكراه لإسكات النقاد.
اقرأ/ي أيضًا: تسعة أعوام على الاستقلال.. الأسى يطغى على الفرح
إرث الحروب الأهلية
أشارت هيلدا جونسون في كتابها "القصة غير المرئية: جنوب السودان من الاستقلال إلى الحرب الأهلية"، بأن قادة الحركة الشعبية دائمًا ما يستحضرون إرث خلافاتهم خلال سنوات الحرب الأهلية السودانية الثانية 1983- 2005، للتغلب على المواقف الراهنة. يمثل هذا الاستدعاء ملمحًا من إرث الصراع الذي عانت منه الحركة منذ تأسيسها، حيث كان أول صراع حول رؤيتها ومواقفها، هل تقاتل من أجل انفصال جنوب السودان أم من أجل سودان موحد، بين مجموعتين. وانتهى هذا الصراع بانتصار المجموعة التي نادت بـ"السودان الجديد"، ومقتل قيادات المجموعة الثانية. بلا شك، ألقت هذه الأحداث بظلالها على مسار الحركة وتاريخها، فالانقسامات التي شهدتها كانت لها علاقة بهذه المرحلة بصورة أو بأخرى. واستمرت في ظهورها بعد أقل من سنتين من ميلاد الدولة، بين رفقاء الأمس.
أزمة القيادة وأحداث 2013
تجلت الأزمة في التنظيم الحاكم، عندما أعلن أربعة من قياداته، نائب الرئيس، الأمين العام، وعضوين آخرين من مكتبها السياسي، عن عزمهم المنافسة على منصب رئاسة الحزب كخطوة أولية لضمان مقعد رئاسة حكومة الدولة. كان هذا التحدي الثالث في أروقة الحركة بعد غياب الراحل جون قرنق دي مبيور. الأولى كانت في أعقاب رحيله، والسؤال عن الاستراتيجية من بعده. أما الثانية، فنشأت إبان مؤتمر عام الحركة الثاني الذي عقد في أيار/مايو 2008، ومحاولات أعضائها هزيمة رفاقهم في معارك الولاء والبقاء. حدث إرجاء للمعركة حينها لتعاظم تكالِيفها، ولأخطارها كذلك على الاستفتاء. والثالثة، عندما عادوا للمناورات النخبوية مع قرب الانتخابات العامة في 2015، والتي لم تنظم لتجدد الحرب.
اقرأ/ي أيضًا: ضياع حقوق المرأة في جنوب السودان رغم الإجماع عليها
لجأ الرئيس لسلطته التنفيذية غير الحزبية، واتهم منافسيه بالفساد، فأقال نائبه ووزراء حكومته في 23 تموز/يوليو 2013. بينما ارتأت المجموعة المناوئة تحركها عبر منافذ السلطة التشريعية، بحكم عضويتهم فيها، كما في أجهزة الحزب العليا؛ المكتب السياسي ومجلس التحرير القومي، للحشد التنظيمي للوزراء المبعدين من الحكومة، بدأت وقتها نذر حرب الرفاق، مثلما حدثت قبل خمس سنوات سابقة.
اشتركت معظم التحليلات التي حاولت تفسير الحرب، في نتائج متشابهة، وتطرقت في مجملها، لأزمة غياب الرؤية الاستراتيجية، وتنافس قيادات الحركة واستغلالهم للعامل القبلي
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، في مؤتمر السادس من كانون الأول/ديسمبر الصحفي، من قبل النائب السابق للرئيس وأعضاء الحركة البارزين، لترد مجموعة الرئيس بمؤتمرٍ صحفي مضاد بعد يومين من التاريخ السابق. اندلعت شرارة الحرب في كانون الأول/ديسمبر2013، في ظل هذه الأجواء مع انعقاد اجتماعات مجلس التحرير القومي للحركة.
اشتركت معظم التحليلات التي حاولت تفسير الحرب، في نتائج متشابهة، وتطرقت في مجملها، لأزمة غياب الرؤية الاستراتيجية، وتنافس قيادات الحزب واستغلالهم للعامل القبلي والولاء الأعمى. فالرحيل المبكر لزعيمها التاريخي الدكتور جون قرنق، كما سلفت الإشارة، كشف فراغًا عميقًا، كان ولا يزال يشير إلى العجز التنظيمي والسياسي والفكري للحركة الشعبية، وكأن عجلتها قد توقفت في مرحلة إنجاز الكفاح المسلح.
اتفاقية سلام 2015: الفرصة المهدورة
كانت مقاربة وساطة الإيغاد والدول الناشطة لاحتواء الأزمة، قائمة على تفسير نشوء الحرب نتيجة التنافس داخل الحركة الشعبية، لذلك، افترضت بأن أي حل لها، يستلزم تقاسم السلطة والثروة، عبر المفاوضات كخيار للتسوية تحت رعاية الإيغاد. وفي الزاوية المقابلة، جرت مفاوضات استهدفت إعادة توحيد حزب الحركة الشعبية بمبادرة من الحزبين الحاكمين في تنزانيا وجنوب أفريقيا. وسارت مفاوضات الإيغاد في طريق التسوية السياسية. بينما نجح المسار الثاني في دفع قيادات الحركة الشعبية للاعتراف بجذور الأزمة. أثمرت المساهمتين في توقيع اتفاقيتين عام 2015. الأولى، في كانون الثاني/يناير بإعلان أروشا بتنزانيا، التوحيدي لأجنحة الحركة الشعبية، والثانية جاءت في آب/أغسطس من العام ذاته، باتفاق تسوية إنهاء الحرب بين الأطراف المشاركة في أديس أبابا.
هكذا، أعطيت النخبة الحركة بتياراتها الثلاثة سانحة أخرى لإثبات بأن ما حدث في الخامس عشر من كانون الأول/ديسمبر عام 2013، كان نوعًا من أمراض الطفولة. ولكن بدا لهؤلاء القادة بأنهم حصلوا على صكوك الغفران، وتكفير ذنوبهم، وعادوا أسرى للالتفات لإرضاء طموحاتهم الشخصية، حتى انفجار الأحداث المأساوية في تموز/يوليو 2016، بالاقتتال في محيط القصر الرئاسي المعروف شعبيًا بـ"جي 1"، وعودة الحرب وتوسع رقعتها، لتضطر منظمة الإيغاد للتدخل مرةً أخرى، عبر اتفاقية منشطة في أيلول/سبتمبر 2018، بضمانة دولتي السودان وأوغندا.
ما الخطأ: ما الذي أدى إليه؟
إن العودة إلى مخرجات مؤتمر كل الأحزاب السياسية في جنوب السودان في تشرين الأول/أكتوبر 2010، مطلوبةٌ للإجابة على التساؤل أعلاه، فهي بداية الخطأ التاريخي للحركة الشعبية، وذلك بنقضها للتوافق الوَطَنِي لخارطة الطريق (Road Map) لمرحلة ما بعد الاستفتاء، والتي تضمنت رؤى كافة التنظيمات السياسية المشاركة، من شأن آلية صياغة الدستور، وتشكيل الحكومة الانتقالية، بجانب إقرار نظم الحكم الذي يناسب التطلعات الشعبية.
اقرأ/ي أيضًا: 30 يونيو: تصحيح المسار وإحباط آمال الانقلابيين
ولم ينفذ أيًا من بنودها السابقة، وإنما استمرت الحركة الشعبية في تهميش القوى السياسية الأخرى، بسردية "نضالها المقدس"، عليه، انسحب أعضاء القوى السياسية عن لجنة إعداد الدستور، لغلبة أعضاء الحركة الميكانيكية على قراراتها. فأعد الدستور وفق مجموعة متنفذة في الحركة، من خلال تركيز الصلاحيات التنفيذية لرئيس الجمهورية، وهي المسألة التي أثير الجدل حولها، من قبل ذات أعضاء الحركة الذين ساهم بعضهم في إقصاء الأحزاب الأخرى.
المعضلة الرئيسية التي واجهتها البلاد في السنوات التسعة الماضية، هي انعدام البصيرة لنخب الحركة الشعبية، وعجزها عن إنجاز ما ظلت تنادي به
إن ما حدث من تجاوزات في صياغة الدستور الانتقالي 2011، وهيمنة الحركة على مفاصل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، ما هي إلا انعكاس لأزمة الانتقال التي ظلت تعانيها الحركة، من التحرير إلى السلطة، على غرار ما شهدناه في دول أخرى. فأسوار الشرعية العالية التي ظلت تنادي بها الحركة في خطابها، تقف حجرة عثرة أمام إدراكها لأهمية حرية العمل السياسي للقوى الأخرى. فهي تراها مجرد قوى تابعة، وتارة أخرى، صنيعة العدو إبان الحرب، وبذلك، يجوز احتقارها وشراء ذمم بعض قادتها اللاهثة وراء المغانم. إذن المعضلة الرئيسية التي واجهتها البلاد في السنوات التسعة الماضية، هي انعدام البصيرة لنخب الحركة الشعبية، وعجزها عن إنجاز ما ظلت تنادي به. فلا هم نجحوا في النهوض بمقدرات الدولة، ولا قاموا بتوحيد الإرادة السياسية في حدها الأدنى لإحداث قطيعةٍ ظلامات الماضي والانطلاق نحو آفاق المستقبل.
اقرأ/ي أيضًا