انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في بدايات الحراك الثوري، ملصقات داعية إلى التظاهرات، وكان بعضها مكتوباً بلغات سودانية أخرى غير العربية، وإن جاءت كتابتها بالحرف العربي. أيامها ظننت أن هذا الفعل يشكل بذرةً بحثت عنها مع آخرين طويلًا، من أجل إظهار أوجه السودان الخفية في واجهة المشهد، لتقف الثقافات التي تعبِّر عنها تلك اللغات، كتفاً بكتف مع العربية التي تطغى عليها منذ وقت ليس قليلًا، حتى بتنا نحن المتحدثين بها كلغة أم؛ نجهل كل شيء – تقريبًا- عن أشقائنا الذين نتقاسم معهم الجغرافيا والتاريخ.
التجاوب اللحظي الذي وجدته تلك الملصقات المكتوبة باللغات السودانية، سرعان ما تناقص في تناسب عكسي مع اتجاه الثورة المتصاعد صوب النصر
التجاوب اللحظي الذي وجدته تلك الملصقات المكتوبة باللغات السودانية، لا سيما شعار الثوار الأول #تسقط_بس؛ سرعان ما تناقص في تناسب عكسي مع اتجاه الثورة المتصاعد صوب النصر، لتختفي مؤقتاً تلك الفرص التي كانت متاحة للبناء عليها – في نظري– وإن كانت وضعت بظهورها ذاك أساسًا يمكن البناء عليه لاحقًا، بدلاً من السير الأعمى وسط أشواك المحاذير الأيديولوجية الراسخة.
اقرأ/ي أيضًا: قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال
الحديث عن هوية السودان– مثله مثل قضية المركز والهامش- دائمًا ما يشبه ركل خلية نحل، ويتم التعامل غالبًا مع من يفتح هذا الموضوع بقسوة كبيرة من قبل "النخبة الافتراضية" المركزية التي تحتل المجال العام ووسائل التخاطب فيه، فالبعض يرى أن نقاش هذا الأمر يصب ضمن المؤامرة العالمية على الإسلام والعروبة، فيما يفترض آخرون أنه جدل بلا أهمية أو معركة ثانوية وترف انصرافي؛ قياسًا إلى كم المشاكل "الواقعية" العاجلة المواجَه بها السوداني يوميًا، في حين ينظر فريق ثالث إلى مسألة الهوية هذه نظرة توفيقية– تلفيقية، تطرح حلًا وسطًا تظل فيه الغلبة للثقافة والهوية العربيتين، هذا بخلاف ردود الفعل الساعية إلى تجريم المتحدث ورميه بالشعوبية الحديثة.
إلا أن كل هذا الغبار لا ينفي – في رأيي– حقيقة أن للسودان أوجهًا كثيرة، لكن يتم التواطؤ على إظهار وجه واحد فقط منها للعالم، حتى من قَبل الخراب الذي أحدثه نظام البشير. إنه الوجه الذي يماشي انتماءً مفترضًا للقلة، تسعى إلى تعميمه على الجميع داخل جغرافيا ثقافية هي من الأغنى في العالم بحسب ما أرى. محاولات صبغ السودان كله بصبغة واحدة، وإدخاله في "يونيفورم" قياسي هي عملية مستمرة بلا توقف، وفي بعض حالات تعطل هذه العملية لظروف قاهرة - مثل اتفاقية السلام 2005 – تتحول آلياتها لتعمل بمكر أكبر وبصمت يساعد على تجاهلها.
"السياسات الاجتماعية" للنخبة، المدمجة في بنية الدولة السودانية في تمثلاتها المتعددة منذ الحكم التركي (1821)؛ مصممة لضمان استمرار هذه العملية، فهي نتيجة سيطرة مجموعات سودانية على هيكل الدولة بعد تحالفها مع الغزاة الأتراك، ومن ثم وراثتهم بعد سنوات المهدية القصيرة، مما سمح تاريخيًا لهذه المجموعات بتملُّك الحق في إنتاج المفاهيم الحاكمة للمجتمعات، وترسيخها بقوة الدولة وعنفها. هي عملية أشبه بمفهوم "التمكين" السياسي الذي أتى به الإسلاميون مع انقلابهم في 1989، ويقوم على السيطرة بشكل مطلق على الدولة وتطويعها لخدمة مشروعهم، ومن ثم ضمان استمرار عمل هذا المشروع حتى بعد ذهابهم، مثلما نراه يحدث اليوم بعد أن ورثنا دولة مصابة بفيروسهم في كل سنتيمتر من مفاصلها.
اقرأ/ي أيضًا: أي إعلام يريد السودان بعد ثورته؟
لكل ذلك، تظل عملية تلميع وجهٍ واحدٍ للسودان وطمس بقية وجوهه، تسير رغم المقاومة التي تجدها، وهي مقاومة وصلت في أحيان كثيرة إلى حد الحرب. كان بإمكان الثورة أن تكسر حلقة السيطرة هذه إن تغيرت ظروفها قليلًا، بالمواصلة في مخاطبة كل من يقع خارج دائرة الضوء، وهو ما لم يحدث لطبيعة الفعل وظرفه التاريخي كما نعلم. لم تكن الملصقات المكتوبة بلغات غير عربية موجهة إلى أولئك القابعين في ظلام النسيان، بل كانت تخاطب أبناء كتلة الوسط المسيطرة، وعترة الطبقة الوسطى المدينية التي تبحث عن حليف منسي أوان اشتداد المعركة، هي إعادة اكتشاف للذات في تشظيها الثقافي، وكأن الثوار المتحدثين بالعربية يرون للمرة الأولى غيرهم، يسمعون ويقرأون ويعرفون ماذا تعني الكلمات التي كانت لديهم مجرد "رطانة".
محاولات صبغ السودان كله بصبغة واحدة، وإدخاله في "يونيفورم" قياسي هي عملية مستمرة بلا توقف
الثورة ليست المناكفات السياسية التقليدية وصراعات الأحزاب، الثورة حادثة في السودان، تعلو موجاتها وتنخفض، لكنها لم تتوقف. الموجة الأخيرة "ثورة ديسمبر– أبريل"؛ كانت هائلة حتى إنها تتجاوز خيالنا نحن السودانيين (بتعميم مقصود). خلخلت أساسات ما ظن أحد لوهلة أن تهتز، وصنعت شقوقًا تتسرب منها مفاهيم جديدة وثورية حقًا، قد تبدو ضئيلة، أو مفارقة لاهتمامات البعض، أو تتناسى قضايا مثل التي نتحدث عنها الآن؛ إلا أنها تظل كبيرة وعاتية.
لن يكفي أن يخرج تلفزيون السودان الرسمي من جلبابه وعمامته وسياسة "الأفندية" ضيقة الأفق التي وسمته منذ الستينات، فيعمد إلى الحيلة ذاتها التي يستخدمها حين كل اتفاقية سلام أو تغيير طفيف وجبري، بالتنويع في وجوه المذيعين والمذيعات لنرى وجوهاً سوداء سودانية تخبرنا عن عظمة موسيقى شمال السودان أو وسطه، أو يتحفنا ببرامج يجلس فيها مذيع متعالٍ ينثر معلومات عن طقس "جدع النار" مثلاً، دون دراية، بل وكأنه "متسودن" – على وزن "مستشرق"!
تلفزيون السودان يمثل فرصة كبيرة مهدرة دومًا لخياطة هذه الجروح التي تتسع كل يوم، مباعدة بين الإخوة في الوطن الواحد؛ إلا أنه سيظل تلفزيون النخبة المنحاز لثقافة واحدة ولغة واحدة لا يظهر غيرهما إلا مِنةً وتفضلاً، فهل نرى فيه– على الأقل– مادة بلغة سودانية غير العربية ولو رافقتها ترجمة أسفل الشاشة، أو أغاني حقيقية، أو رقصات لا يُلزم فيها الراقصون بقواعد أخلاقية لا تنتمي لهم بل لمالكي التلفزيون، مالكي الدولة الدائمين بتغير برامجهم السياسية؟
اقرأ/ي أيضًا
جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية
السلام الشامل.. بوابة الخروج من الدائرة الجهنمية