07-مايو-2020

الرائدة النسوية فاطمة أحمد إبراهيم (بوابة الجنوبي)

لا أبدو الشخص المناسب للحديث عن الحركات النسوية، ولا للحديث مع النسويات؛ دائما يصدمني ما تعانيه النساء في الحياة، ذلك الذي يتجاوز في كل مرة حد السوء الذي أعرف، فيأخذ بيدي ليكشف عتمة ظلم جديد، لكن حتى يوم الناس هذا، أنا أشكر الله على أن منحني شرف النوع، لأكون ابنة/ طالبة/ معلمة/ سيدة/ أستاذة، حملتُ تاء التأنيث ببهجة في كل مكان أو وظيفة كنت فيها، نشأت في بيت تكرم فيه النساء، ويغمرن بالمحبة حتى لا يكدن يرين خارج البيت من يعرف الحب؛ علمنا إخواننا الذوق، أخبرونا عن جمالنا، حكوا لنا قصص السيدات العظيمات، زودونا بالكتب، شجعونا على الدراسة، ونظروا لنا دائما بفخر يغالب المحبة، وبمحبة تغمر الفخر؛ أنسى ما أنسى لكني لا أنسى همسة أخي: "كلي ثقة"، ربما كنت حينها في سنوات الجامعة، لكن شعرت بثقته تلك درعًا يقيني كل سوء، وهالة من الضوء تعلو رأسي، وجناحان من عزم وهمة.

القارة السمراء أخصب أرض في الدنيا، هي أرض سمادها الأجساد الغضة، والدموع المالحة وأحزان لن تشفى

بدأت أتعرف على المجتمع بعد سنوات من التخرج، بدأت أعرف الأهوال التي تواجهها النساء من أجل كسب العيش وإعالة أنفسهن وأبنائهن، وما يحاربنه من فقر وجوع بين وحشية الذكور وقسوة الحياة، في عالم ثالث تقتات على أجساد أطفاله المجاعات، وتطعم الأمهات أطفالهن التراب، ثم في آخر الأمر تلقف الأرض أجساد هؤلاء الأطفال، لتصبح القارة السمراء أخصب أرض في الدنيا، فهي أرض سمادها الأجساد الغضة، والدموع المالحة وأحزان لن تشفى.

اقرأ/ي أيضًا: الفيروس النيوليبرالي المُعوَّلم

كل هذا الوجع يجعلني أنظر إلى معارك النسويات السودانيات هذه الأيام على أنه ابتذال وترف، فبدلًا من الحديث عن إلينا عن حرياتنا التي نتمتع بها أصلًا ليتهن ينشغلن بقضايا معالجة الفقر، ليتهن يخبرننا عن ما يمكن أن نفعله لإغاثة هؤلاء الأمهات، لزيادة عدد الصغيرات الملتحقات بالمدارس، بآليات تنمية المجتمع ليصل إلى ما هن فيه من رفاه، لنفكر بعدها فيما يشغلهن، لن أذهب بعيدًا في تاريخ السودان، لكن أتساءل أحيانًا هل رأين فاطمة أحمد إبراهيم، فاطمة السمحة، بتوبها الذي تشده إذا ارتخي تقف في البرلمان السوداني تقاتل لأجل حياة النساء، تدرك حقيقة قضاياهن، حتى لتغدو أمًا للجميع على اختلافاتهم السياسية والفكرية، امرأة تتوهج بالطاقة، وتفتح نوافذ الأمل بالعمل.

مضت بي سنوات العمر فتبيّن لي أن المرأة وحدها تستطيع أن تحدد معركتها، هل تكون المعركة لأجل حياتها أم لدفنها، وأن النساء كن قادرات على امتداد تاريخ البشرية على تجييش الجيوش وتجهيزها، ثم فجأة نكبة أصابت نساء الشرق فجعلتهن الغيرة والجهالة أقوى عدو لأنفسهن. لتفكيك هذا الافتراض دعونا نردد النظر بين أثر المرأة في الحروب القديمة، إلى حين اتخاذها ذريعةً للاستعمار الأول والثاني.

في الشرق لعبت المرأة قبل الإسلام دورًا بارزًا في في إشعال نار الحرب. نحيلُ القارئ إلى حرب البسوس التي استمرت لأربعة عقود بسبب أبيات شعر شكَّكت في شجاعة رجال القبيلة إذ لم يثأروا لمقتل ناقة، ومن أشهر المعارك التي خاضها المسلمون وسيَّر الخليفة فيها الجيوش بسبب امرأة هي معركة عمورية[1]. حيث دخل الجيش المسلم المدينة بعد أن حاصرها فأثخن في عدوه القتل والأَسْر، وذلك بقيادة الخليفة العباسي المعتصم بالله، الذي هبَّ بنفسه وخيله ورَجْله ردًا لشرف وكرامة امرأة مسلمة صرخت "وا معتصماه!" مستغيثةً به بعد أن أَكْثَرَ البيزنطيون أَسْرَ المسلمات وانتهاك حرماتهن على الحدود بين الدولتين، ذلك عام 838. في الغرب كانت الأسطورة الأعظم هي حرب طروادة التي قامت لأجل الجميلة هيلانة تقريبًا في القرن 13 قبل الميلاد، وقد استمر حصار المدينة عشر سنوات. الطريف في الأمر أن كلًّا من طروادة وعمورية تقع جغرافيًّا في منطقة الأناضول.

يزداد الأمر طرافة في العصر الحديث، حيث حمل همَّ حماية المرأة المسلمة الغرب المسيحي، الذي نظر إلى حجابها  ونقابها على أنه سجن وحصار اجتماعي وحرمان، ذلك لأنه ليس أوروبيًّا، والغرب مُصرٌّ على "إعادة إنتاج العالم على شاكلة أروبا في وصفها النموذج الأوحد الممكن والقابل للحياة من أجل إنهاء الظلم الممأسس على الجندر". مسعد 2009[2].

اقرأ/ي أيضًا: الصادق سمل والصفح.. هل من عدالة؟

لنَعُد إلى الوراء قليلا، إلى الجزائر حيث رأت[3] في المسيرات التي أَجبر فيها الفرنسيون بعض الجزائريات على نزع البرقع هوسًا بالمرأة. لكن هذا الهوس يزداد حتى يصل حد أنَّ الحرب التي أسماها الغرب حرب ضد الإرهاب -متمثِّلا في طالبان مثلًا- تصبح حربًا من أجل تحرير نساء أفغانستان من السجن داخل بيوتهن، فتقول لورا بوش: "بسبب انتشارنا العسكري مؤخرًا في أغلب أفغانستان لم تعُد النساء هناك سجينات منازلهن. بإمكانهن الآن الاستماع إلى الموسيقى وتعليم بناتهن دون خوف من العقوبة. المعركة ضد الإرهاب هي أيضًا معركة من أجل حقوق وكرامة النساء". أشير هنا إلى فكرة جاياتري سبيفاك عن أنَّ "فكرة حقوق الإنسان قد تحمل في طياتها أجندة من نوع الدراونية الاجتماعية -تقول بأن- الأفضل سيحملون عبء تخفيف الأذى عمَّن هم أقلُّ أفضلية- وإمكانية وجود عذر للتدخل السياسي والعسكري والاقتصادي". وذهب جوزيف مسعد، إلى أن المؤسسات العسكرية الغربية لا ترى بأسًا في تدمير البنية التحتية للمجتمعات المتخلفة والمضطهدة مما قد يدفعها إلى الحداثة الغربية، "المتسمة بالمساواة والعدالة"!

أشارت أبو لغُد إلى أن عبارات لورا بوش تعود بذاكرة الإنسانية إلى التاريخ الاستعماري الذي دائمًا ما برر أفعاله بحجة حماية النساء من ممارسات مثل حرق الذات حدادًا على الزوج، وزواج القاصرات في جنوب آسيا، والأمر نفسه في الشرق الأوسط حيث اعتبر الاستعمار الإنجليزي في مصر الحجاب مظهرًا من مظاهر قهر المرأة، لكنَّه بالمقابل لم يهتم بقضايا مثل تعليمها، بل ورفض اللورد كرومر منحها حق التصويت.

اختارت خديجة -رضى الله عنها- أن تكون مستقلة اقتصاديًا وإداريًا عن ما يدور بدار الندوة، بينما اختارت هند بنت عتبة أن تدير دار الندوة عن طريق أبي سفيان

على الجانب الآخر للتاريخ، نجد أن المرأة هي من تحدد أين تكون هي وبناتها في خارطة الحياة، مثلًا اختارت خديجة -رضى الله عنها- أن تكون مستقلة اقتصاديًا وإداريًا عن ما يدور بدار الندوة، بينما اختارت هند بنت عتبة أن تدير دار الندوة عن طريق أبي سفيان، ولا يغفل أحد دور هند في محاربة الإسلام ولا قوة عزمها التي أظهرتها في غزوة أحد، ولا ينسى مسلم دور أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- في تأمين الهجرة، ولا دور أختها الصغرى أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- في نقل سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطون كتب المحدّثين، وبالطبع لن ننسى أنها سيّرت جيشًا في موقعة الجمل! لا تهمنا المواقف التاريخية ولا المحاكمات، يهمنا النظر إلى النساء في صدر الإسلام، مسلمات كن أم كافرات، تمتعن بسلطة هن من فرضها، ومارسنها عن استحقاق وجدارة لا عن طريق محاصصة الجندر (البليد/ة)، ولم يمنعهن الإسلام ولا أعاقهن الحجاب ولا أغلّت أعناقهن المشرئبة قوانين الأحوال الشخصية، ولا العادات والتقاليد المجتمعية.

اقرأ/ي أيضًا

كورونا والنفط.. ما الذي يجب على قيادتنا فعله؟

تخليص الإبريز في تلخيص باريز.. والكورونا والأفندية

 

[1]  يعتبرها المسلمون فتحا دينيا ونصرا سياسيا، ودون شك هي عند البيزنطيين اعتداء وهزيمة.

[2] مسعد، جوزيف: كيف يجب ألَّا ندرس النوع الاجتماعي (الجندر) في العالم العربي، مجلة الآداب 7/8-2009، صفحات 25-26.

 

[3] Lila abu-lughod: Do Muslim Woman Really Need Saving? American anthropologist 2002. Vol 104(3) 783 790.