في السابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2018 وفي قلب العنفوان الثوري، وُجدت جثة الطالب عبد الرحمن الصادق سمل الذي كان مفقودًا لأيام في إحدى مستشفيات الخرطوم. يؤكد تقرير الوفاة أن سبب الموت هو الغرق، ولكن والد الشهيد عبد الرحمن وجد بعض الجروح والكدمات على الرأس وبالعنق وفي الظهر، ما يعني ويشير إلى أن جسد عبد الرحمن قد تعرض لتعذيبٍ وحشي، ثم ألقي بجسده على النيل بعد وفاته جراء التعذيب.
سمل لا يطلب من القاتل الاعتراف بذنبه المُرتَكَب وطلب الصفح، بل هو يريد أن يتسامى عن تفاهة القاتل ويجدد ذاكرته عبر سؤال القاتل عن آخر لحظات ابنه
تشير أصابع الاتهام في ملابسات الوفاة بسبب تزامنها مع أحداث الثورة إلى جهاز الأمن والمخابرات الوطني، الذي عُرف بتنكيله وقتله للمعارضين داخل سجونه السرية وفي الساحات أثناء مواكب الثورة. ولكن ما حدث بعد ذلك هو ظهور الأب الصادق سمل في واجهة الثورة وتصدُّر منشوراته المُفكَرة التي فتحت أسئلة العدالة على مصراعيها، مثل ما هو نوع العدالة الناجزة التي يمكن لها أن تكون مقابل هذه الحادثة أو في مقابل ما وقع في كل ماضي تاريخنا السياسي؟
اقرأ/ي أيضًا: "اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب
يطالب الصادق سمل بنوع من العدالة الغريبة والمختلفة عن مألوف تاريخنا المعاصر وتاريخنا المحلي المتعلق بالقضايا السياسية أيضًا، ولكن منشورات الصادق على فيسبوك وحديثه في الندوات الجماهيرية يفتح أفقًا جديدًا للنقاش حول ماهية العدالة، فما يطلبه سمل ليس عدالة تطالب بالعقاب أو جبر الضرر ولا هي مصالحة تريد أن تمحو الذاكرة وتنسى في ضرب من الغفران التوحيدي وتكفير الذنب، ولا هي عدالة انتقالية بالمعنى الحديث كالذي حدث بجنوب أفريقيا في لجنة الحقيقة والمصالحة، أو أشكال الانتقال الأخرى التي سكّنت الصراع ولم تعد ترتيب الثروة والسلطة من جديد، ولا هي أيضًا العفو السيادي الممنوح للحاكم كحالة استثناء أو كسلطة مضادة وفوقية للقانون، ولا هي أيضًا الصفح الذي تحدث عنه جاك دريدا في كتابه "الصفح... ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم"*.
ولكن ما يقاربه دريدا عن طريق الصفح نجد ما يدعمه في منشورات الصادق سمل، وبالتالي سأدعو دريدا مرارًا عبر هذا المقال والمقالات القادمة؛ ليعيننا على فهم المحنة التي خاض غمارها الصادق سمل بشجاعة لا مثيل لها، كأحد آباء الضحايا الذين سُلبت حياة أبنائهم.
يطرح دريدا مفهوم الصفح بوصفه "صفحًا ليس لما يمكن صفحه، بل للمستحيل صفحه"، يريد دريدا أن يجعل من المستحيل ممكنًا، ثم يقارب مفردة الصفح (Pardon بالفرنسية) في دلالاتها الأخرى في اللغات الأوربية (الفرنسية والألمانية والإنجليزية) والتي تعني الغفران المسيحي والعفو الإلهي. يُحوِّر دريدا معناها من كونها هبة ومنحة، في حالة طلب الجاني لها، إلى هبة من غير شروط ولا تقع في تبادلٍ اقتصادي ما "قتلًا بقتل، أو تعويضًا بقتل"، أي أنها ليست مبادلة بين ذاتيتين، لأن القضايا والمجازر الشنيعة هي ما لا تقبل التكفير ولا تقبل جبر الضرر، أو هي ما يستحيل مقايضتها بشيء، لأن ما وقع يفوق كل تعويض ممكن، وبالتالي الصفح ليس سياسة ما، بل هو عطاء ومنح ما لا يمكن منحه، ومن لا يستطيع أحدٌ أن يمنحه، فالذي يمكن غفرانه أو التكفير عنه يدخل في دائرة الممكن دومًا، وبالتالي هو أمرٌ عادي ولا يستطيع حمل مفهوم الصفح، ولكن ماذا بالذي لا يمكن غفرانه أو التكفير عنه أو المستحيل جبر ضرره؟ يقول دريدا إن هذا المستحيل هو الذي يتطلب صفحًا لأنه معضلة لا يمكن لنا تجنبها، بما أنه لا يقبل التقادم، ولا يقبل التعويض، ويستحيل فيه جبر الضرر.
يَذكُر جانكليفيتش** في كتابه "ما لا يقبل التقادم" إلى أنه من المستحيل الصفح في جرائم الإنسانية ويقول "مات الصفح في معسكرات الموت"1، مؤكدًا بهذه الجملة على استحالة الصفح في جريمة كالمحرقة النازية، لأنها لا تقبل التعويض، واستحالة كل عدالة أن تجبر ضررها، وفي كونها لا يمكن فيها الصفح لأنه "لم نعد نعرف هوية من سنلومه، ولا من سنَتّهِم"2، ينطلق جانكليفيتش في أغلب حججه المطروحة في كتابه من ذاكرة غاضبة لا تريد أن تغفر، ولا أن تنسى الجريمة، ولكن ما أن تحول هذا الغضب إلى مشاعر كراهية "الصفح! لكن، لكن هل طلبوا منا الصفح؟ وحدهما عزلة واستغاثة المذنب قد تعطيان معنى ومبررًا للصفح... فإن الصفح يكون عبارة عن دعابة ثقيلة"3. وعلينا أن نسأل هل يُعَد صفح الصادق سمل دعابة ثقيلة أيضًا؟ وما الذي يريده الصادق سمل؟ هل هو صفح غير مشروط عن القاتل؟ أم يمكن أن يُضمّن مفهوم سمل عن العدالة ضمن تبادلية من طرفين، طرف يطلب الصفح وآخر يمنح العفو.
وفقًا لسمل فلا هذا ولا ذاك. بل هو يريد تبادلية من نوع آخر. فهو لا يطلب من القاتل الاعتراف بذنبه المُرتَكَب وطلبه الصفح، بل هو يريد أن يتسامى عن تفاهة القاتل ويجدد ذاكرته عبر سؤال القاتل عن آخر لحظات ابنه. إذًا الصادق لا يريد من القاتل-الضحية أن يطلب الصفح، بل هو يريد أن يجدد من ذاكرته المجروحة. يضعنا السمل هنا في قلب مفهوم دريدا عن الصفح، إذ إن الصفح لا يعني أبدًا نسيان الماضي؛ بل إن مفهومًا كالتصالح هو الذي يتطلب بالضرورة أن يقوم على نسيان الماضي وجعله ماضيًا بالفعل وفتح صفحة جديدة. يقول دريدا "الصفح ليس النسيان، ولا يجب خصوصًا أن يغدو نسيانًا"4.
اقرأ/ي أيضًا: الشهيد يلحم أبعادنا ويكتبنا بالدم
يضعنا سمل في مفارقة غريبة، فمع أن قاتل ابنه لم يعترف بعد بالجرم الذي ارتكبه، فهو مجهول ولم يُعرِّف نفسه. ولكن يبادر سمل بمد يده للقاتل ومنحه الصفح بدون أن يطلب القاتل الصفح؛ لكن سمل بموقفه هذا يحاول أن يؤكد أن الجرم ليس جنائيًا فحسب ولا يقع على عاتق الفرد فقط، وعلى غرار حنة أردنت 5 يؤكد سمل أن صيرورة مؤسسة الدولة منذ ميلادها هي التي مارست القتل على مواطنيها ولا يعدو الفرد فيها سوى أداة.
يمكنني بدوري أن أُكني القاتل، فرد الأمن أو جميع الجناة غير المعروفين أو الذين بُت في قضاياهم بالفعل بـ "التافهين" على غرار مفهوم حنة أردنت "تفاهة الشر"، فما تعنيه هو قدرة النظام الشمولي على تغييب وعي الفرد المنتمي إليه ومن ثم تحويله إلى شكل حيواني أو مسخ بشري غير قادر على الإدراك وتحمل المسؤولية بقيمومته على وعيه الذاتي6، لكن ما يمكن أن يُؤسَسَ على هذا الموقف من عدم وجوب المسؤولية الفردية في القتل هو معضلة قانونية كبيرة تجابهنا، فكل المسؤولية الجنائية تقع على الفرد الذي ارتكب الجريمة بغض النظر عن ما حفزه لارتكاب الفعل الجنائي، ولا يقع مفهوم "الظرف" في الفعل الجنائي إلا كحالة لا تنفي أبدًا وجوب التهمة على الفرد؛ بل إن العقوبة هي ما تؤسس على ظرفية الفعل الجنائي، لأن القانون يؤسس نفسه على مبدأ "حرية المرء ووجوب مسؤوليته تجاه أفعاله".
ما يطلبه سمل هو مبادلة لا شخصية "غير قائمة على المنفعة الذاتية"، أي عبر تحويل جرحه المكلوم إلى وثيقة خلاص لمستقبل القادمين
لكن سمل يحاول أن يفك الالتباس عبر جر المسؤولية الفردية "في حالة المجازر والجرم السياسي" إلى منطقة أخرى يمكن عن طريقها جر المستقبل الجنائي نفسه لمنطقة تأسيسية وليس سلطة عقابية فحسب، أي عبر تحويل حالة العنف البيروقراطي للمؤسسات وتحييدها. إنها المبادلة التي يطلبها سمل؛ مبادلة الجريمة بالمستقبل، عبر تعطيل آلة القتل وتحويل القتل نفسه لمشكل وجودي وإيتيقي ينبغي عزله أو قتله، وليس فعلًا قانونيًا جنائيًا فرديًا وحسب.
يريد سمل بذلك أن يؤسس لمستقبلٍ جديد ويضع العدالة في وجه الجاني مباشرة "أي الجهاز الشرعي للعنف وهو هنا الدولة". يبدو أن سمل وعلى غرار المفكرين، لا ينطلق من حالة اضطغان سياسي وكراهية تحاول أن تؤسس المستقبل على نموذج تعيس "لا تعويض فيه للشهداء ولا هو مستقبل قادر على تأسيس نموذج عدلي يعطل ماكينة القتل". ما يطلبه سمل هو مبادلة لا شخصية "غير قائمة على المنفعة الذاتية"، أي عبر تحويل جرحه المكلوم إلى وثيقة خلاص لمستقبل القادمين.
المراجع والهوامش:
*هذا الكتاب هو عبارة عن محاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في عدة جامعات "أثينا، كيب تاون، القدس" بين عامي 1997 و1998
**جانكليفيتش: فيلسوف فرنسي من كتبه "الصفح" (1967)، "ما لا يقبل التقادم" (1986)
1"الصفح" جاك دريدا، ترجمة: مصطفى العارف – عبد الرحيم نور الدين، منشورات المتوسط، ص33
2 المرجع السابق، ص36
3المرجع السابق، ص32
4المرجع السابق، ص29
5يقصد على غرار عنوان كتاب حنة أردنت "أيخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر"
6"أسس التوتاليتارية" حنة أرندت
اقرأ/ي أيضًا:
ديسمبر الجليل.. تأويلية المكان وجماليات المقاومة
خارج حدود الاعتصام.. لماذا بالخارج؟