ما حدث في مؤتمر برلين خطوة كبيرة ومهمة، وقد انقسم الرأي العام الداخلي حولها بين فرحٍ ومتفائلٍ وقلقٍ متوجسٍ ومتشائمٍ يرى أنها ستذهب في غير ما يستفيد منه أهل البلاد. ويخلط البعض حينما يتطلعون فقط للقيمة الاقتصادية بمعزل عن القيمة السياسية، ويبدون مخاوفهم من عدم استفادة البلاد من الدعم المقدم بسبب المنهج الاقتصادي الذي يريد وزير المالية المضي فيه.
دعم السودان ليس عطية بل جزءٌ من حقوقه على المجتمع الدولي كدولة عضو بالأمم المتحدة
استحقاقات واجبة
تجدر الإشارة الى أن السودان دولة عضو في المجتمع الدولي، ومن ضمن دول الأمم المتحدة، وانطلاقًا من هذا، فإن له حقوق وواجبات شأنه شأن كل دول العالم، ومثلما خرجت دولة الإنقاذ الفاشلة على القوانين الدولية، وعرضت البلاد لسيل من العقوبات الدولية، شملت العقوبات الاقتصادية والسياسية، وتعدى ذلك لملاحقات جنائية دولية لقادتها؛ فإن ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة التي اسقطت هذا النظام قد خلقت واقعًا جديدًا، يعيد موضعة البلاد ضمن المنظومة الدولية، ويفتح الباب لترميم علاقاتها المخربة، واستفادتها من الحقوق التي تنالها الدول في حالة نهوضها من الحطام.
وقد تلقت دولٌ عديدة في مختلف قارات العالم دعمًا دوليًا حتى تجتاز المحن التي تمر بها وتستعيد دورها ومكانتها في إطار الأسرة الدولية. وبالتالي فتحرك العالم لدعم السودان هو جزء من استحقاقات واجبة وليست عطية كما يشير البعض، وتنالها البلاد ليس بسبب النهج الاقتصادي ولا بفرضه، وإنما بسبب ما أحدثته ثورة ديسمبر من تحولٍ كبيرٍ وأطلقته من آمال باستعادة البلاد من براثن الاستبداد والفساد، وخطورة وصعوبة الانتقال الذي يواجهها، وتأثيرات السودان كدولة على محيطه الإقليمي، وتداعيات أي خلل يصيبه على جواره المضطرب سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وإنسانيًا.
اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان: ماذا بعد تجاوز معضلة توزيع الولايات؟
حصاد 30 عامًا
يجب علينا أن نتذكر أن حصاد (30) عامًا من حكم التسلط والديكتاتورية والحزب الواحد الذي تعدت جرائمه حدود البلاد لزعزعة دول الجوار وأمنها، قد دمر اقتصاد البلاد وحطم البنية التحتية للإنتاجين الزراعي والصناعي، وعطل تقدمها في كافة المجالات، ونهب ثروات البلاد وجيرها لمصلحة قلة وفئة فاسدة، ووضع مقدرات البلاد تحت أيدي مشايعيه، وقد وصلت البلاد بعد سقوطه مرحلة أنها عجزت عن شراء الوقود والقمح من البواخر المنتظرة في ميناء بورتسودان بسبب خزينتها الخاوية.
الاقتصاد قضية سياسية
قضية أي السياسات تنتهجها البلاد اقتصاديًا هي ساحة صراع سياسي وفكري مفتوح يقوم على حجة وقدرة أطرافه على إدارته، وحسمه في نهاية المطاف بما يحقق مصالح البلاد بيد التحالف السياسي الذي قام باختيار وزير المالية لمنصبه، وبموقف القاعدة الشعبية ودعمها للسياسات الاقتصادية المطروحة سواء من الوزير أو التحالف، وبالقدرة على طرح سياسات بديلة للتي يريد المضي فيها، وتحقيقها للمصلحة الوطنية العامة، وتلك قضية لا تتحمل أي مزايدات من هذا الطرف أو ذاك، بقدر ما يجب أن تطرح في سياقها الصحيح للرأي العام وإدارة حوار واضح وشفاف حولها.
اقرأ/ي أيضًا: معاول البناء الهدام
الأموال المقدمة أقل من المتوقع؟
يثير البعض حجم الأموال المقدمة وأنها أقل من المتوقع وتتم المقارنة بينها وبين حالات بعض الدول، في العادة تسبق مثل هذه المؤتمرات أعمال تقوم بها لجان فنية متخصصة على المستوى الوطني ومشتركة مع الشركاء، تحدد مجالات الدعم والشراكة والأموال المطلوبة لدفع الاقتصاد بالدولة المعنية، وفي ذلك الإطار يجدر أن يتم توضيح ما إذا كانت الحكومة قد قدمت رؤية اقتصادية، وتم تحديد تلك المساهمات المقدمة بناءً عليها.
يجب تحويل هذا الالتفاف الأممي لبوابة لإخراج البلاد من مستنقع الحاجة للإسهام الفاعل في مختلف المجالات
خارطة اقتصادية تنموية
تحقيق الفائدة القصوى من هذا الأموال بالمضي قدمًا في تحقيق مهام الفترة الانتقالية وعلى رأسها تحقيق السلام، واستكمال هياكل الحكم، وتفكيك بقايا النظام وفك ارتباطه بجهاز الدولة، وبردع المفسدين ومحاسبتهم وقفل أبواب الفساد، وولاية وزارة المالية الكاملة على المال العام. وذلك يتحقق بمشاريع محددة في مختلف المجالات، وبمشروع وطني يقوم على رؤية واضحة لإعادة البناء في مختلف المجالات الزراعية والصناعية وإصلاح القطاعات المدمرة، وتحويل هذا الالتفاف الأممي لبوابة لإخراج البلاد من مستنقع الحاجة للإسهام الفاعل في مختلف المجالات، وإعداد خارطة اقتصادية تنموية لكافة أنحاء السودان، وهذا هو السبيل الوحيد الذي يدفع العالم للإيفاء بالتزاماته.
اقرأ/ي أيضًا: النزاعات القبلية: نظرة لما بعد نظريات المؤامرة
مؤتمر برلين يختلف عن مؤتمر أوسلو
يشير الكثيرون لعدم إيفاء العالم بالتزاماته عقب مؤتمر أوسلو في العام 2008 عقب اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل، وينبغي هنا التذكير بأن تلك الاتفاقية تعرضت لتخريب من قبل حزب المؤتمر الوطني أفرغها من مضمونها، حيث تلاعب ببنودها ومواقيت إنفاذها بشكل منهجي، كما أنه مارس حرب خفية على حكومة جنوب السودان بإثارة القلاقل والفتن القبلية، وواصل قبضته الديكتاتورية بقوانينه القمعية، وقاد بحربه الهوجاء في دارفور وانتهاكاته غير المسبوقة لحقوق الإنسان لكوارث إنسانية.
لا يمكن مقارنة ما جرى ببرلين بمؤتمر أوسلو للمانحين 2008 لدعم السلام وتنفيذ مقرراته، وذلك بسبب الفروقات الجوهرية بين المرحلتين
كل ذلك أدى إلى وضعه على قائمة الأنظمة الملاحقة، وبالتالي فهو قد ساهم فيما حدث من تراجعٍ كبيرٍ في الدعم الدولي لاتفاقية السلام، وإحجام المانحين عن تقديم الدعم لدولة مارقة على شرعة حقوق الإنسان الدولية، وتحويل أغلب الدعم لاحتواء الأثار الإنسانية لسياساته وحروبه المدمرة، فأين سودان اليوم من ذلك الماضي القبيح؟!
اقرأ/ي أيضًا
تقرير: الدعم السريع جند الأطفال لفض اعتصام القيادة العامة وحرب اليمن
قاعدة مصرية في جنوب السودان أم بالونة اختبار تهدد مستقبل "الحلف الثلاثي"؟