عمَدَ إسياس أفورقي منذ التحاقه بالثورة الإريترية، على أن يصبح مركزًا مهمًا تلتفت إليه كل الأنظار، وأن يصبح صاحب القرار الأول والأخير في كل شأن يخص الثورة. وهذا ما نجح في تحقيقه بترتيبه وقيادته للانفصال عن جبهة تحرير إريتريا، وتكوين قوات التحرير الإريترية، والتي تخلص منها ولاحقًا وأسس الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والتي يتسنم قيادتها إلى اليوم على الرغم من مرور أكثر من (40) عامًا على تأسيسها؛ منذ عهد الثورة مرورًا بعهد الدولة القائمة الآن.
إقليم تغراي هو دولة داخل الدولة بما كان له من سيطرة على مفاصل الحكم في إثيوبيا
في المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، طلب إسياس أفورقي بصريح العبارة إقالة الأمين العام رمضان محمد نور من منصبه، على أن يؤول المنصب إليه؛ ليصبح بذلك الأمين العام بدلًا عن نائب الأمين، بغض النظر عن رأي المؤتمرين. وحسب شهادة معاصرين، فإنهم ساهموا في إقناع رمضان بتقديم استقالته بدلًا عن إقالته التي قد تخلق مشكلة في المؤتمر.
اقرأ/ي أيضًا: التطبيع.. هل كان بالضرورة؟
لا أحد من الذين ناضلوا معه أو قرأوا سيرته التاريخية تمكّنوا من معرفة سر هذه القوة، لكن معلوم للجميع أنه كان يخطط بدقة لكل خطوة يخطوها، ويستخدم سياسة التقريب والإبعاد وفق الحاجة بين زملاء النضال. كما أنه أسس جهازًا معلوماتيًا ينشر الأخبار والمعلومات عنه وعن ذكاءه وقدرته الخارقة؛ فظل الجنود المناضلين يسمعون عن سيرته قبل أن يروه، وبعضهم لم يره رأي العين حتى اليوم. مضافٌ إلي ذلك معلومات -غير مؤكدة- عن علاقاته مع القوى الدولية وخاصة مخابراتها، لكن ما رصده زملاؤه أنه كان يقضي جل وقته في القراءة والاطلاع، مع ملاحظة أنه لم يكمل تعليمه الجامعي.
وحينما دخل إلى أسمرة قائدًا للتحرير والتنظيم الثوري الذي حقق الانتصار؛ كان يحمل في جيبه قائمة تضم مئات المواطنين المستهدفين بالاعتقال، وهو ما نفّذه بعد شهور من إعلان الاستقلال وقبل حتى الاعتراف الرسمي بالدولة الإريترية، والذي حدث في 24 أيار/مايو 1993.
الإلهاء وفرض حالة الطوارئ
بعد استقلال إريتريا، تركّزت كل الصلاحيات في الدولة في يد إسياس أفورقي؛ فهو الوحيد الذي يصدر القرارات، وكل قرار يخرج لا بد من أن يوافق هو شخصيًا عليه. ولمزيد من إطباق الخناق وإبقاء السلطة في يديه، استخدم سياستي الاستهداف الخارجي والتخوين الداخلي، حيث اتهم عددًا كبيرًا من المواطنين والمناضلين بالخيانة والعمل ضد الثورة وأهدافها وضد مصلحة الوطن؛ وزج بعدد كبير منهم في السجون. كما أنه دخل في حروب متتالية مع دول الجوار، بدءًا باليمن بسبب الحدود الدولية وتبعية أرخبيل "حنيش"، والذي تنازل عنه لاحقًا بعد خسائر في الأرواح بين جنود إريتريين ويمنيين.
وبحسب بعض التصريحات التي تعود لسكّان الجزر من الإريتريين؛ فإن الحكومة الإريترية تنازلت عن جزر تتبع للإريتريين. ومرد هذا الأمر -حسب قولهم- أن الجانب الإريتري الذي أدار الحوار مع اليمنيين لا يعرف ديمغرافية السكّان، ولا يعرفون طبيعة الحياة في البحر.
نفس الشيء في نزاع الحدود مع جيبوتي حول منطقة "رأس دميرا"، ثم نزاعاته المتكررة مع السودان، من خلال دعمه للمعارضة السودانية في كل مناطق الساحل، والتي نتجت عنها معارك جنوب طوكر والتي كانت بإسناد كامل من جيش الدفاع الإريتري، والمعارك التي دارت في مدينة كسلا بين الجيش السوداني وتحالف المعارضة السودانية، ثم الحرب الإريترية الإثيوبية (1998-2000).
وعبر كل هذه السنوات، أبقى إسياس أفورقي على نظامه ذو القبضة العسكرية والأمنية والذي لا يعرف لغةً غير الاعتقالات والسجن لسنوات طويلة دون تحديد تُهم أو تقديم المعتقلين للمحاكمات العادلة. حيث كان من بين الذين طالهم الاعتقال وزراء وسياسيون وفنانون وصحفيون، إلى جانب إغلاق جميع الصحف المستقلة منذ (19) عامًا.
هل إريتريا جزء من الحرب في إثيوبيا؟
كل المؤشرات تشير إلى أن السلام الذي حدث بين إريتريا وإثيوبيا بعد تولي رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للسلطة في أديس أبابا، هو سلام ناقص وتكتيكي وليس سلامًا حقيقيًا؛ إذ يجمع بين الرجلين كثير من المشتركات. أولها العداء المضطرد تجاه قيادة إقليم تغراي، فآبي أحمد يريد أن يصبح رجل إثيوبيا الأول، وكذلك اتجاهه للسلام وعلاقة الود التي تجمعه مع الرئيس الإريتري والذي نال بسببه على جائزة نوبل للسلام. ولكن آبي أحمد في نفس الوقت يسعى حثيثًا أن يسحق أي قوة داخلية يمكن أن تشكّل له تهديدًا، وهذه القوى هي إقليم تغراي المستقر سياسيًّا واقتصاديًّا، بقاعدة جماهيرية وشعبية تدين بالولاء الكامل لقيادتها. كما أن إسياس افورقي منذ توليه لزمام الأمور في الثورة الإريترية بطموح حكم إريتريا مباشرة وكذلك حكم إثيوبيا عبر الجبهة الشعبية لتحرير تغراي، فهو كان يسعى لأن يتم تأديب الذين خرجوا عن طوعه، وهم ملس زيناوي ومن جايلوه، بالرغم من أنه قد حدث تقدم للصف الثاني على الأول من قيادة تغراي، والذين يظهر عليهم قدرة تفاهم وتعايش مع آبي أحمد وإسياس، إلا أن الرغبة العارمة في سحقهم؛ جعلتهم يتصرفون بندية كاملة ومواجهة كبيرة تشبه مواجهات دولة ضد دولة، أو بالأحرى دولتين متحالفتين ضد دولة، وليس حربًا أهلية داخل إثيوبيا فقط.
طوال فترة حكمه أظهر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، تخبطًا ما بين الرجل الذي يحتاج إلى حاضنة اجتماعية متكئًا على قوميته (قومية الأورومو)، أو يتخذ طريقًا جديدًا وهو أن يؤسس ويدعو لحزب جديد يتجاوز التكوين الإثني للعضو كما فعل في حزبه الجديد؛ "حزب الازدهار". ومع أن الحزب نفسه يعتمد على تحالف بين مجموعات إثنية تتكون من قومية الأمهرا ومجموعة شعوب الجنوب إلى جانب قومية الأورومو؛ فإنه قوبل بمعارضة كبيرة ومن داخل إثنية آبي أحمد نفسه، لأن الحقوق منزوعة عن المواطنين كإثنيات وليس كأفراد، وهذا ما قفز عليه آبي أحمد وأراد أن يخلق واقعًا جديدًا لا يتسق مع أحوال المواطنين. وما بين إعلان آبي بفوزه بجائزة نوبل للسلام، وتاريخ حصوله عليها؛ قتلت قواته أكثر من (70) مواطنًا من المحتجين الرافضين لخطته الإصلاحية في إثيوبيا.
اقرأ/ي أيضًا: إثيوبيا.. مرجلٌ يغلي
خلال (27) سنة من الحكم المنفرد؛ أساءت الجبهة الشعبية لتحرير تغراي استخدام السلطة، وكدست كل مكتسبات البلاد لصالح قوميتها، وغرق قادتها في الفساد وتوزيع السلطة والرتب العسكرية، وفي الوقت الذي ساهم كل هذا في ثورة الشعب الإثيوبي؛ فقد ساهم أيضًا في جعل التغراي قوة بمقام دولة كاملة. يمكنها الآن أن تطلق الصواريخ على مطار أسمرة كما تفعل كل دولة تخوض حربًا ضد دولة أخرى، وليس حربًا أهلية داخلية محصورة في إثيوبيا كما يتم تعريفها.
مصير شرق السودان كان على مر تاريخه؛ مرتبط أيضًا بمصير الهضبة الحبشية
يقرأ كل ذلك مع تعقيدات وهشاشة الأوضاع في السودان وبالتحديد في شرق السودان المجاور للدولتين وتأثير تدفق النازحين نتيجة للحرب، وهو الإقليم الذي شهد اقتتالات إثنية عنيفة في الفترة الماضية ويشهد تصاعدًا خطيرًا في خطابات الكراهية والعنصرية ما ينذر بحرب أهلية على وشك الانفجار في أي لحظة، وهو ما لن يساعد فيه قيام حرب أهلية في الدولتين اللتين تجاورانه؛ فمصير شرق السودان كان على مر تاريخه، مرتبط أيضًا بمصير الهضبة الحبشية.
اقرأ/ي أيضًا