21-يوليو-2019

فشلت تجربة بناء الدولة في جنوب السودان في مهدها (VOA News)

مرت في هذا الشهر الذكرى الثامنة لاستقلال جنوب السودان الذي نال استقلاله في التاسع من تموز/يوليو2011، بعد الاستفتاء الذي صوت له أكثر من 99%، مكونًا دولة قائمة بذاتها، كأحدث دولة تنضم إلى الأسرة الدولية بعد اسكتلندا التي نالت استقلالها مؤخرًا، إلا أنه نتيجًة لفشل النخب الجنوبية، ودخول الدولة المستقلة في أتون الحروب الأهلية، صُنفت بأنها أهش دولة في العالم حسب تقارير "مؤشر الدول الهشة" لعام 2017، الذي يصدر بالتعاون بين "مؤسسة السلام" ومجلة فورين بوليسي الأمريكية، ثم تصدرت اليمن القائمة في هذا العام تليها الصومال وجنوب السودان بالترتيب.

كلفت حرب الجنوب المتطاولة والمزكاة بالمد الداخلي والخارجي، الدولة تكاليف باهظة جدًا، فقد تجاوزت التكاليف نسبة ما تنفقه حكومة جنوب السودان على التعليم والصحة

جنوب السودان قبل الاستقلال وأسباب الانفصال

يقع إقليم جنوب السودان في شمال شرق إفريقيا ويتخذ من مدينة جوبا عاصمة له، كما يعتبر الإقليم من الأقاليم الغنية بالحقول النفطية عالميًا، ويتمتع بكثافة الأراضي الصالحة للزراعة والأمطار التي تهطل على مدار العام، مما أدّى إلى غنائه بالمحاصيل الزراعية والفواكه النادرة. إلا أنَّه وبالرغم من ذلك عانى مواطنو الإقليم من السياسات المتبعة من قبل الحكومة المركزية في الخرطوم تجاههم منذ استقلال السودان من الاحتلال البريطاني في عام 1956، فقد اتهم مواطنو الجنوب الحكومات المتعاقبة بممارسة نفس سياسات المستعمر تجاههم، فما زالت التنمية غير المتوازنة حاضرة، إضافة إلى تفرد أبناء شمال السودان بالحكم، وعدم تقاسم السلطة والثروة بشكل عادل، والإخفاق في التعاطي مع التنوع الثقافي واللغوي والديني والإثني منذ الاستقلال في جنوب السودان وهذا هو ديدن الحكومات المتعاقبة في السودان، كل ذلك أدخل الإقليم في حروب أهلية مستعرة منذ الخمسينات، وحتى تشكل الحكومة الذاتية في إقليم جنوب السودان في 1972 والتي استمرت حتى 1983.

اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة

في السياق عينه ونتيجة للسياسات الخاطئة من قبل الحكومة تجاه الإقليم، دخلت المنطقة في حرب أهلية ثانية في 1983، كانت إحدى أطول وأعنف الحروب في ذلك القرن، حيث راح ضحيتها ما يقارب 1.9 مليون من المدنيين، إلى أن وضعت الحرب أوزارها باتفاقية السلام الشامل في 2005، والتي أعطت الإقليم حق تقرير المصير بحلول عام 2011، إلا أن الاتفاقية واجهت انتقادات واسعة، حيث وصفت بأنها ترميم لبناء متهالك، فقد انتقدها الكثيرون بأنَّها أعطت حق تقرير المصير لجنوب السودان في وقت يعتبر الجنوب ليس في كامل الاستعداد لبناء دولة.

  اندلاع الحرب بعد الاستقلال

ثمة آراء ذهبت إلى أن خيار الانفصال قد يكون خطرًا على إقليم جنوب السودان، وكذلك دولة السودان الأم، فالأول لا يمتلك مقومات بناء الدولة، وليس له الخبرة الكافية لإدارة دولاب الدولة، إضافًة إلى ضعف الحركة الشعبية الحزب الحاكم في جنوب السودان بقيادة سلفاكير ميارديت، والفساد المستشري، أضف إلى ذلك تفشي الانقسامات الجهوية والقبلية بالداخل، والصراعات الإثنية الداخلية، والتجاذبات والمطامع والاستقطابات الإقليمية والدولية.

 علاوة على ما سبق، لا يمتلك الإقليم الوسائل الملائمة للرعاية الصحية والخدمات والعلاج. لكل ذلك لم يمض سوى عام واحد من ولادة "جمهورية جنوب السودان" حتى لاحت في الأفق الصورة لأسوأ أشكال "الدولة الفاشلة"، فقد خيب نموذج دولة جنوب السودان التي احتفل العالم بدخولها إلى نادي الدول المستقلة بالأمم المتحدة، آمال الكثيرين في العالم، فجنوب السودان سقطت في هاوية الفشل بعد أن افترسها الصراع العرقي والسياسي وهو ما تناوله ياسر البريكان في كتابه "جنوب السودان.. صراع الوصول لقمة الفشل".

بمرور عامين فقط من انفصالها عن السودان، شِهدت الدولة نزاعًا جديدًا، بدأ إثر اندلاع اشتباكات عنيفة بين أفراد وحدة الحرس الرئاسي في 15 من كانون الأول/ديسمبر 2013، فقد تطورت تلك الأحداث إلى حربٍ أهلية ضروس، قُتل فيها الآلاف، وتشرُّد أكثر من مليون لاجئ إلى دول الجوار، بحسب تقارير المنظمات الدولية، بحثًا عن الأمن نسبةً لاتساع رقعة الاقتتال بين الحكومة والمتمردين، بصورة أدّت إلى ظهور أزمّة إنسانية مستفحلة، بعد أن أدخلت نقمة النفط الدولة في نفق مظلم نتيجًة للصراع عليه بين الحكومة والمعارضة.  

اقرأ/ي أيضًا: رواية "جنّة الخفافيش".. جنوب السودان بحذافيره

تكلفة الحرب في جنوب السودان

حرب الجنوب المتطاولة والمزكاة بالمد الداخلي والخارجي، كلفت الدولة تكاليف باهظة جدًا، فقد تجاوزت التكاليف نسبة ما تنفقه حكومة جنوب السودان على التعليم والصحة، حيث استخدمت في هذه الحرب الدبابات والطائرات، وأحدثت دمارًا أدّى إلى  آثار عميقة وواسعة على كل المجتمع الجنوب سوداني، وهو ما تناوله لوس لينقو José Luengo بالتفصيل في دراسة له بعنوان تكلفة الحرب في جنوب السودان، مشيرًا إلى أن الحرب في الدولة أحدثت خسائر كبيرة في البشر، فقد ارتفع عدد الوفيات بشكل مأهول، إضافًة الى الخسائر الاقتصادية حيث انهار سعر الصرف، الذي أثّر في ارتفاع تكاليف المواد الغذائية، وخسائر إنتاجية في رأس المال وسط زعزعة للاستقرار، كما أن الخسائر السياسية لعبت دورًا جوهريًا في إنهاك الدولة، فقد خلص لينقو Luengo بأن ذلك أدّى إلى الفشل في بناء دولة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار. فقد عانى سكان جنوب السودان من عِدة مشاكل اقتصادية نتيجة للحرب ووقف مرور النفط عبر السودان نتيجة لفرض الأخيرة رسوم عبور طائلة جدًا، ونتيًجة لاعتماد الدولة على عائدات النفط بعد توقف تصديره، وانعكس ذلك على المواطنين بعد السياسات التي اتبعت من قبل الحكومة والبنك المركزي. إذ بدأ البنك  في تقليص ضخ حجم النقد المخصص للبنوك والصرافات بأكثر من 50%، مما تسبب في تصاعد حاد في معدل التضخم الذي ارتفع من 47% إلى 67%، مما يعني المزيد من تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وانهيار العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية.

لم يمض سوى عام واحد من ولادة "جمهورية جنوب السودان" حتى لاحت في الأفق الصورة لأسوأ أشكال "الدولة الفاشلة"، فقد خيب نموذج دولة جنوب السودان آمال الكثيرين في العالم

الخروج من المأزق

كما أسلف، فإن هنالك مشكلة نخب في جنوب السودان كما هي الحال في الدولة الأم السودان، فلم تتشرب تلك النخب من القيم الديمقراطية، ولم تتمتع بقدر من الإرادة السياسية التي تؤهلها لقيادة البلاد والعبور من هذه المنطقة الحرجة، وبالرغم من أنَّ الاتفاق الأخير في أوغندا بين الحركة الشعبية والمعارضة الذي انتهي بتعيين رياك مشار المعارض للحكومة نائبًا لرئيس الحركة الشعبية سلفاكير ميارديت في العام الماضي، إلا أنَّ البعض ينظر إلى هذا الاتفاق بأنَّه مبني على محاصصات، حيث وُزعت السلطة حسب أحجام الأجسام المشاركة في الاتفاق، واستبعدت بعض الفصائل المعارضة، مما يجعل مستقبل الاتفاق محض غرس لا يجدي ولا يرجى له ثمر. في السياق ذاته يذهب البعض إلى أنَّ هذا الاتفاق يخدم مصالح وأجندة خارجية، لذلك يرى الكثيرون بأنَّه لن يصمد كثيرًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في مواجهة كابوس التقسيم.. كيف أسقطت هوية أبطال سودانيين بسبب الانفصال؟

ما هي الصفقة وراء رفع العقوبات الأمريكية عن السودان؟