في بيئة سودانية تقليدية، ولدت نعمة الباقر، وتلقت تعليمها الأول في محيط معقد ومليء بالموروثات التي انتقلت عبر الأجيال. ومثل كل فتاة سودانية من جيلها كان لها أن تختار مسارًا مألوفًا ومحددًا مسبقاً: زوج وديع ومنزل دافئ وأطفال يحيطون بها في شيخوختها، لكن، يبدو إن نعمة قررت منذ سنوات مبكرة أن تختار الطريق الصعب.
أثبتت نعمة من خلال مسيرتها أن الصحفي لا يستحق هذا اللقب إذا لم يكن نصيرًا للإنسان والقضية وصوتًا للأقليات والمعذبين في الأرض
نعمة تختار طريقها
خرجت نعمة الباقر عن المألوف وكسرت الجدران التي تحيط بالفتاة السودانية. اختارت مهنة المتاعب، في وقت كانت الصحافة النسوية فيه لا تزال قيد التشكل والتكوين.
في هذا العالم برعت وتألقت، فحجزت لاسمها بسرعة مكانًا إلى جانب عمالقة الصحافة السودانية. في العام 2002 صعدت نعمة مراتب كبيرة وتجاوزت مراحل عمرية في العمل الصحفي حين تم اختيارها كمراسلة لوكالة رويترز العالمية.
اقرأ/ي أيضًا: محمد جمال الدين..رج المقدس في غناء الحقيبة
يجوز لنا أن نقول إن حبها للصحافة كان حبًا بالوراثة، فهي ابنة الصحفي الكبير الباقر أحمد عبدالله والإعلامية ابتسام عفان، كما أنه إبداع انتقل من جيل إلى آخر. في بداياتها لم تستكن نعمة إلى الكتابة السهلة، ونقل الأخبار التي تولد ميتة، كان عملها في الوكالة طريقًا آخر لتتجه إلى أصعب مناطق السودان، حيث الحرب لا تهدأ والصراع لا يخمد، إلى دارفور تحديدًا، وعملت مراسلة من هناك وحققت سمعة محلية عالية، ربما كأول امرأة سودانية تذهب إلى هذه المنطقة من وكالة عالمية. لم تتوقف نعمة عند هذا الحد وكانت مع موعد مع نجاح آخر، وطريق شاق في رقعة جغرافية أخرى.
محطات في حياتها
في مدينة الضباب بدأت نعمة سيرة جديدة، ونجاح اختزل الصحافة السودانية في شخصها، كانت صورة للصحفية السودانية المجتهدة والمثابرة، وامتداد لمسيرة النساء في عوالم الكتابة. عملت نعمة الباقر مع قناة مور4 التابعة للقناة الرابعة البريطانية. هناك حطمت نعمة جدارًا آخر وصورة نمطية بأذهان العالم الأول، حيث تألقت ببشرتها السمراء وأكدت أن النجاح والكفاح لا وطن له.
في ذلك الوقت كان إقليم دارفور يغلي، وكان الاتحاد الأوربي يتهم الحكومة السودانية البائدة بارتكاب جرائم اغتصاب، تهم أنكرتها الحكومة ولم يصدقها السودانيون، وقتها كان الإقليم معزولًا عن العالم ولا صوت يعلو فوق صوت المعارك. من أقاصى بلدان الشمال جاءت نعمة لتكشف المستور، وتحقق في هذه التهم والجرائم وتكشفها للعالم، وبذلك سطع نجمها في العالم الأول وأشرقت مثل شمس تخرج من بين غيوم الشتاء.
من يعرف نعمة الباقر يعرف أنها لا تكتفي إلا بتحقيق إنجاز يهز الحكومات ويحرك خرائط العالم، وهو ما حدث حين توجهت إلى العراق وحققت وحاورت شركة "أيجيس" للخدمات الدفاعية حول مقاطع فيديو يظهر فيها موظفو الشركة وهم يقتلون مدنيين بصورة عشوائية.
الحوارات التي تجريها نعمة الباقر ليس الغرض منها تحقيق نصر ذاتي، إنما مناصرة لقضايا الإنسان أينما وجد، ولتحقيق العدالة للإنسانية، أثبتت نعمة من خلال مسيرتها أن الصحفي لا يستحق هذا اللقب إن لم يكن نصيرًا للإنسان وصوتًا للأقليات والمعذبين في الأرض، وأن الصحفي الحقيقي هو صوت كل هؤلاء. وكانت نعمة الباقر أيضًا صوتًا لكل امرأة اغتصبت، وكل فرد هُمش وانتهكت كرامته.
لم تنس نعمة الباقر يومًا جذورها الأفريقية، وفي العام 2007 كانت في الصومال دون خوف من الموت أو الإصابة والسماء تغطيها القنابل الأمريكية المنهمرة على المواطنين العزل، جابت نعمة مناطق الصراع ونقلت الصور الحية للمشاهدين. ومرة أخرى حققت نجاحًا جديد.
اقرأ/ي أيضًا: "عائشة الفلاّتية".. صوت الوعي الوطني والتمرّد في أغنية السودانيين
مع الدعم السريع وآخرين
عادت نعمة الباقر في 2016 إلى دارفور لمقابلة زعيم قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي، والدخول إلى تلك المناطق تم عن طريق تشاد حيث توجب عليها أن تجتاز صحراء شاسعة للوصول لمعاقل الدعم السريع. وسردت في عمل وثائقي حياة هؤلاء الجنود، عن طريق حوارات أجرتها بطريقة بسيطة ولغة سهلة. كانت المرة الأولى التي يرى فيها العالم قوات الدعم السريع عن كثب.
تلا ذلك في 2017 ظهور قضية بيع وتجارة البشر في ليبيا، أظهرت الفيديوهات واللقاءات التي أجرتها نعمة الباقر أن المهاجرين غير الشرعيين يعيشون في أوضاع قاسية، إنهم العبيد الجدد، حيث تنشط بأجزاء من المناطق الليبية أسواق للتجارة بهؤلاء البشر، ومقايضة أهلهم بمبالغ مالية مقابل تحريرهم من أسواق النخاسة الجديدة. عرضت نعمة صورًا لمهاجرين مكبلين بالسلاسل الحديدية، يبدوا ليهم الهزال من قلة الطعام وسوء المعاملة، ويتعرضون لكل صنوف التعذيب. كان تقريرًا هز العالم، غير أنه كان سببًا في عتق عشرات البشر من نير الاسترقاق. ثم حققت نعمة انجازًا عالميًا في تغطيتها للحرب في اليمن، حيث كشفت في تحقيق لشبكة CNN عن الأسلحة الأمريكية التي تسربت إلى أيدي مليشيات توصف بالإرهابية، وكان لتقريرها أصداء سياسية كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية.
طريق نعمة يبدأ من الآن
صحفي سوداني: لنعمة الباقر دور في كشف الشركات الأمنية أبان الثورة السودانية، وألهمت مسيرتها كثير من الصحفيات السودانيات
يقول الصحفي محمد الفاتح "نيالا" في شهادة عن نعمة الباقر، إن نعمة كان لها دور كبير إبان الثورة السودانية المجيدة، فقد كشفت في تقرير دور الشركات الأمنية الروسية في قمع المحتجين، خاصة "شركة فاغنر" وهي شركة شبيهة بشركة "بلاك ووتر" الأمريكية، وترفع شعار"نحن نحارب من أجلك" وتعمل عبر أذرعها في عدد من دول الشرق الأوسط. يؤكد نيالا إن نعمة الباقر ساهمت في كشف المستور وتوضيح كثير من الحقائق، وألهمت شجاعتها كثير من الصحفيات السودانيات لخوض مجال الكتابة والعمل في التحقيقات الاستقصائية الصعبة.
حاليًا تعمل نعمة الباقر كمراسلة لشبكات تلفزيون "سي إن إن" وحصلت على جائزة أفضل صحفي تلفزيوني للعام 2019 التي تمنحها جمعية التلفزيون الملكي، وهي أول صحفية من أصول أفريقية تفوز بهذه الجائزة الرفيعة. فوزها ليس الأول ولن يكون الأخير، بعد كل نجاح تحققه يبدأ طريقها نحو كشف الحقائق، فهي صحفية لا تبحث إلا عن الحقيقة.
اقرأ/ي أيضًا:
بعد 40 عامًا على رحيل "منى الخير".. "عيون المها" ما تزال تغازل وجدان الناس
الأيقونات الثوريّة.. جدليّة الرمز وصاحبه