14-فبراير-2020

رقص فلكلوري سوداني Getty

إلى من يظن أن الثورة كانت هي الخيار الوحيد أمامنا، أو  الخيار الأسهل..

الثورة حالة حب، تأتي عقب فترة من السكون والاستسلام، معلنة عنفوان الحركة، وقوة الرفض. ولا يخفى على أحد، أنَّ نوبةً، من التردد، ظلت جاثمة، على الشوارع السودانية، عقب أحداث سبتمبر 2013، التي أمطرت فيها الخرطوم رصاصًا، راح ضحيَّته قرابةُ المئتَي شهيدٍ، تتراوح أعمارهم، بين 16-65 سنة، وكان ضمن شهدائها، طلاب بملابسهم المدرسية؛ في مشهد، لا يثبت صغر سنهم، ويحدد هويَّاتهم فحسب، وإنَّما يخبرك، أن الوحشية التي واجهتها تلك الجموع المتفرقة، لم تكن لتخطر، ببال بشر.

صباحًا، ستغزوك الصقور، مساءً، سترتع فيك الذئاب، لكن الأرض تبقى ساكنة، وكذا ستبقى أنت ساكن

لكن ما حدث في 2013، جعل من يخرجون إلى الشوارع في ديسمبر 2018، يخرجون مقاومين للرصاص، بصدورهم العارية، منتصرين لإنسانيتهم وكرامتهم، باذلين كل غالٍ، ثمنًا رخيصًا، في أعينهم، مهرا لحريَّة وكرامة، صَعْبٌ طِلابهما؛ وما بعدهما، أشد صعوبة.

إنَّها قصاصات، تحاول أن تصف حالة الشد والجذب، وما كان يعتمل في الصدور، من غلي مراجل الضيق.

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى سبتمبر السوداني

قصاصة أولى

علينا أن نكتب، ونحن عالقون، في متاهة الحياة، بين شد المحبِّين وجذبهم؛ تتقطَّع أوصالنا. لا أحد يسمع صوت التمزُّق، أو يحسّ وجعه، بل يسمعون صمتك، صارخًا، باللا مبالاة، ويسمعون بكاءك، شاهقًا في الفرح.

أنت الآن ألواح الخشب العالقة في سكة القطار، تُثَبِّت حديدها، في الأرض، وتضبط اتِّجاه القطار الذي سيدهسك، في طريقه إلى وجهته، التي ربَّما كانت أنت، غابة تنتظر مزيدا من الفؤوس والحرائق كزومبي. تواصل الحياة شدَّك، يشدك اليمين يمينًا، واليسار يسارًا، شدٌّ لا يشبه إلا صلب فرعون للسحرة. تسمع صوت أحشائك، وكأنَّك تسمع صرير سقف الزنك الذي يقيك البرد، وهو يستعدُّ للطيران، تاركا إيَّاك، لبقية الزمهرير.

ترغب في الصراخ، وطلب النجدة، لكن ممّن وأنت أرض المعركة؟، ستدكُّك حوافر الخيل، وتقع عليك السهام الطائشة، ثم يأخذ كل فريق رايته، ويتركون لك الجثث، والدماء، والسهام المكسّرة.

صباحًا، ستغزوك الصقور، مساءً، سترتع فيك الذئاب، لكن الأرض تبقى ساكنة، وكذلك أنت.

قصاصة ثانية

لك أن تكون مطمئنًّا، ما دمت مدركًا لهول الطريق، الخوف مصدره الجهل، تذكر -حينما كنا أطفالا- كنَّا، نخاف الظلال، حين تتراقص على الجدران، نراها شبحا مقبلًا علينا، أو ثعلبًا يلاحق أرنبًا، فلما كبرنا، أحببنا خوفنا، واعتبرناه براءة، وأحببنا الضوء والظلام، فما بالك بالظلال! الوصول ليس سهلًا، ونسبة النجاة، تكاد تنعدم، فحين نتفاجأ بالمنعطفات الحادة، علينا دائمًا أن ننتبه، لتلك اللوحات التي تحمل التحذير، من المنحى والمنحنى، وأن ترفع ثقل قلبك، من مكبس الوقود، وأن تلتزم بالمثل(درب السلامة للحول قريب) الذي يساوي (سلميّة سلميّة، لأجل الدماء، وأجل الوطن)

هل رأيت كم التلاعب في العبارة السابقة؟ كأن (درب السلامة) حقيقة معروفة . بينما هو أقرب ما يكون للعنقاء والخل الوفي.!!

في بعض المشروعات، نجهز دراسة جدوى، مع الثورة ضد الظلم، لا تملك إلا أن تجهز (حالة أمل)، أمل، يشبه الدروع المسرَّدة، من قال: إن الفارس المستلئم، لا يتألّم من الضرَبات؟ يتألم جدًّا، يا صاحبي، لكنَّه، يكمل المعركة، مستويًا على قدمه، ما استطاع حماية عنقه. درع الأمل، وطوق العمل؛ فيهما النجاة؟

لا أستطيع أن أحدثك عن النجاة، بعضنا ينجو، حين يعلن استسلامه، بعضنا ينجو، حين يموت، بعضنا ينجو، حين يُنجب طفلا، وبعضنا لا ينجو أبدًا، لكنه يكابد ذلك وحده، فيظنه الناس رافلًا، في الجنان، مع سيدة الحسان، وهو في الشقاء، يصارع، لأجل البقاء، حتى لا يبقى منه، إلا الصلصال المتكسر، جسد واهِن، وقلب حزين.

اقرأ/ي أيضًا: أوراق في اللغة والحب والسياسة.. حريّة سلام وعدالة

قصاصة ثالثة

دروع الأمل، وأطواق العمل، خبرات حسن التبصر، كلها؛ لن تحميك، ما لم تحمِ نفسك، بالمثابرة، ثابِر على نفسك، بجد، ليل نهار؛ ثابِر، كأنَّه أهم امتحان، في حياتك، بل هو أهم امتحان، في حياتنا جميعا، بل هو كل حياتك/حياتنا، معًا؛ تذكر تلك الامتحانات التي تخرج منها، مستاءً، متيقنًا من الرسوب، فتحرز أحسن الدرجات؛ وتلك الامتحانات التي تخرج منها، واثقا، من إجاباتك، فرِحا بها، ثم تكتشف، لاحقا، أنك لم تقرأ الأسئلة، جيدًا، وأنَّ جميع إجاباتك، لا تؤهلك، لسوى الرسوب!

الفرق هذه المرة أن الوطن بأجياله القادمة سيصحِّح الأوراق، وأن النتيجة لن تُعلن بسرعة، سيستغرق التصحيح سنوات، وأجيالًا، أتمنى أن تتذكر، أن بعض الخسائر انتصار، وبعض الانتصارات هزائم، نعم، الحياة بسيطة جدا، لأنها تقبل كل الاحتمالات، وللسبب نفسه، هي معقدة جدا.

قصاصة رابعة

الأمل يمسك بيدك، يخبرك أنكما ستحلِّقان معًا، وأنَّه قادر -كسيَّارةٍ تُدلي دلوَها- على إخراج الوطن، من جبِّ يوسف، يخبرك أن الحياة، خارج الجبِّ، جميلة، ومزدحمة بالألوان المبهجة، ترى الوطن محلِّقا نحو السماء، ترتقي الغيمات، تغازل القمر، تلعب بالنجوم، وتلهو كما لو كنت جنِّيَّة في حكايات الأطفال،

هب جنة الخلد عدن لا شيءَ يعدل الوطن!

تبتسم، وقد صار الوطن، فردوس الغد.

يشد الواقع يدك، يخبرك أنَّ الحياة، خارج الجبِّ، ستطحننا، وأنَّ جُبَّنا مستقر، لا ماؤه يعلو، فيغرقنا، ولا السبع يقترب منه، ولا النسر يطيق الغوص إليه، تكاد تسمع صوت عظامك تُدقّ، بفعل الهواجس، هاجسا إثر هاجس، يصدم حلمك، تكاد ترى القطار، يدهس طفلك، وتسمع عويل من فقدت ابنها، وتحس صبر الرجال يتداعى، يخبرك الواقع أنّ أيَّة مساحة -خارج الجب- ستكون ملأى بالأفاعي، والثعالب، والذئاب، والعقارب، ترى نفسك حينها، تحلق بالوطن، لكن بين مخالب الرخ.

أيًّا كانت الوجهة، فقد بلغ ذلك الموكب، أبعد منها، لقد نقلنا جميعا، إلى خانة العمل، بلا خوف، فالرخ لن يأتي على ذرة من هذه الثورة

قصاصة خامسة

"فقط ما تصنعه بيدك، هو ما سيحدث"، لن يحدث ما تخاف منه، ولا ما تتمناه، إلا إنَّ "يداك أوْكتا وفوك نفخ"، تفصيحًا لما كتبه ثائر، وسيَّر موكبا، هو واثنين من أصدقائه، تكاد وجهته لا تخرج عن غايتين: المعتقل أو السماء. لكن أيًّا كانت الوجهة، فقد بلغ ذلك الموكب، في الثاني من يناير، أبعد منها، لقد نقلنا جميعا، إلى خانة العمل، بلا خوف، فالرخ لن يأتي على ذرة من هذه الثورة، في قلوبنا، وإن متنا، فقد متنا كرامًا وظلت

"هذه الأرض لنا ... فليعش سوداننا علما بين الأمم"

اختر حياتك وحبك واذكر قول أحمد شوقي:

وما نيل المطالب بالتمني... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوراق في اللغة والحب والسياسة 2

خارج حدود السينما.. داخل حدود السياسة