20-ديسمبر-2023
الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية السودانية علي احمد كرتي

الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية السودانية علي احمد كرتي (Getty)

في رسالة صوتية موجزة بعث الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية السودانية علي أحمد كرتي نداءً أجمل فيه رؤيته لمشهد ما بعد معركة "ود مدني" التي ألقت بظلال كثيفة على حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، وهي تدخل فصلًا جديدًا من شأنه أن يسدل الستار على حقبة كاملة من تاريخ البلاد، ويفتح الاحتمالات على مصراعيها ما بين تغيير معادلة السلطة وإعادة هندسة قوى عنف الدولة أو ما سبق أن أشار إليه القيادي بقوى الحرية والتغيير ياسر سعيد عرمان وهو يرصد الأثر البالغ للمعارك الدائرة في إصابة ما أسماه "القوة الصلبة للإسلاميين" في أهم مقاتلها، ضمن إعادة إنتاج الحرب وتعريفها، بوصفها ضد "الفلول"، وهو ذاته الذي غرّد مؤخرًا على منصة "إكس" منددًا بذهاب الدعم السريع إلى مهاجمة "ود مدني" بالجزيرة على غير هدىً تمليه ضرورة الأهداف العسكرية.

بشأن ما بدا وصاية في رسالة كرتي، قال مصدر مطلع إن زعيم الحركة الإسلامية "يستشعر خطرًا حقيقيًا يتهدد وجود الدولة" قبل التنظيم

الرسالة الصوتية لكرتي أتت على النسق الخطابي الإسلامي الذي يوظف دلالات النصوص وينفذ بها إلى معالجة الوقائع السياسية وتفصيل المواقف حيال الأحداث والنوازل. وشدد علي كرتي على أن ما أسماه "عهدًا وبيعة لنصرة الحق" باقية في أعناق منتسبي حركته، وأن "شرف القوات المسلحة دونه المهج والدماء"، محرضًا على حماية الحقوق وعدم الركون إلى الاستسلام وانكسار العزائم بسبب "تكالب الأعداء"، صارفًا رسالة مخصوصة لقادة القوات المسلحة بضرورة مخاطبة الشعب بالحقائق وعدم تركه نهبًا للشائعات. وأوضح علي كرتي في رسالته أن الفرص لا تتكرر وأن التفاف الشعب رهين –حسب قوله– بـ"مواقفكم معه في لحظات المحن والابتلاءات"، مشيرًا في خواتيم الرسالة إلى أن استجابة المستنفرين الذين رغبوا طواعية في مشاركة المنظومة الأمنية في أداء واجب حماية الأرض والعرض ستكون –على قوله– شاهدة في سفر التاريخ لهؤلاء القادة أو عليهم. كما طالب كرتي بتعجيل تسليح المستنفرين ليعود المهجرون إلى ديارهم من جديد.

أثار خطاب علي كرتي موجة من ردود الأفعال على وسائط التواصل الاجتماعي، وأعاد إثارة الأسئلة والاستفهامات التي أطلقتها سردية الحرب وأحجيتها المخدومة بوصفها حربًا تشنها قوى نبتت في سياق ظرفي معلوم قبل أن تستدير لحماية كسوب الثورة على مشروع الإسلاميين الممتد في مؤسسة "الجيش" حسب ما تروّج له الآلة الإعلامية للدعم السريع وحلفائها، وهو ما طفق يؤكده الجنرال "حميدتي" في خطابات مضبوطة أو شفاهية تطورت من ممايزة قادة الجيش عن المكون الإسلامي داخله إلى دمغ البرهان نفسه بأنه قائد التنظيم الإسلامي ولديه قسم ولاء للحركة الإسلامية – حسب ما قال قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) في خطاب شهير، وصرح بذلك أيضًا مستشاره يوسف عزت في مداخلة له على قناة الجزيرة.

https://www.whatsapp.com/channel/0029VaFCtreHrDZmdI1tuw1J

وبعيدًا عن ظلال السردية، رأى مصدر مطلع أن الرسالة الموجزة بصوت علي كرتي ليست بوصفه فقط الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية في السودان، وإنما بوصفه أيضًا أحد أهم العناصر التي أدارت أكبر اختراق للمؤسسة العسكرية عبر مكتب التنظيم العسكري للإسلاميين. وتعبر الرسالة –حسب المصدر– بجلاء عن رهانات الصراع على المؤسسة بين قادة الجيش والمكون الإسلامي داخله، إذ يحاذر قادة  الجيش من استنساخ تجربة الدعم السريع عبر تجييش وحتى "تمليش" المستنفرين. وترى قطاعات وازنة في الجيش وقريبة من قادته –وفق المصدر– أن إنجاز تسوية مع الدعم السريع ضمن أفق الانتقال المتعثر أفضل من عودة الإسلاميين على رافعة المستنفرين واستعادة سلطتهم من جديد حال القضاء على خطر الدعم السريع الذي لا يملك مشروعًا مضادًا يسعى به لتغيير السلطة، كونه مثّل أحد أذرعها وأدوات بطشها في لحظات السلم وفي محاصات النزاع والتوترات التي ظلت تشعلها حركات مسلحة. ويرجح المصدر المطلع أن رسالة كرتي تحوي في داخلها يأسًا من اتجاه قادة الجيش صوب إقرار مشروع التسوية المرعية من دول محورية في الإقليم لديها عداء حقيقي مع الإسلاميين وضد أي فرص قد تلوح لاستعادة سلطتهم أو في أدنى الاحتمالات حدوثًا عودة تأثيرهم في المشهد السياسي من جديد.

وبشأن ما بدا وصاية في رسالة كرتي ذات الدقائق الثلاث، أكد المصدر أن زعيم الحركة الإسلامية "يستشعر خطرًا حقيقيًا يتهدد وجود الدولة" قبل شهود الحركة الإسلامية (التنظيم) التي لديها "قاعدة اجتماعية لا يمكن شطبها وتجاوزها تمامًا"، في ظل ما يعتقد المصدر أنه انقضاض خارجي يوازيه انفضاض داخلي مما ينذر بشر مستطير يخشاه كرتي في ظرف مفصلي من إدارته للحركة الإسلامية السودانية. ويمضي المصدر إلى أن مشاركة الإسلاميين في القتال إلى جانب الجيش لا يمكن أن تقرأ بمعزل عن الأوضاع المعقدة التي يعيشها الجيش ومساهمة الإسلاميين في تلك الأوضاع سواءً بصناعة الدعم السريع في مبتدأ الأمر والتصالح مع نشوء كيانات أمنية خارج منظومة الجيش بوصفه المحتكر الشرعي للعنف، إلى جانب ما حدث من "اختراق لمؤسسات الدولة وتسييسها" خلال حكمهم الممتد لثلاثة عقود حسومًا – طبقًا للمصدر.

الأمين المكلف للحركة الإسلامية السودانية علي كرتي
شغل علي كرتي مناصب قيادية في عهد "الإنقاذ" أبرزها عمله وزيرًا للخارجية (Getty)

ويرى الكاتب والمحلل السياسي طه النعمان أن خطاب علي كرتي يندرج في ذات "النمط الشعبوي الديني التقليدي المعهود"، ولا يعد –حسب اعتقاده– إضافةً، غير أنه –وفق رؤيته– أتى محملًا بروح "الهزيمة المتلفحة بالبشريات الغيبية المحفوظة".

في حين يمضي الفاعل السياسي وأمين الفكر السابق بحزب المؤتمر الشعبي الدكتور محمد فقيري إلى أن كرتي وخطابه يمثلان "خصمًا على فعل التعبئة مع الجيش"، لأنه يمثل "وجهًا إنقاذيًا"، غض الطرف عن براءته من تهم الفساد في ظل طور يسعى حثيثًا إلى تجاوز "الإنقاذ" واستشراف أفق جديد، لا سيما في ظل التنميط الجاري من خلال سردية الحرب التي تتبناها "الدعم السريع" وقواعده الاجتماعية وحلفاؤه من القوى الداخلية والإقليمية بحسبان أن مسعى الحرب هو إسقاط دولة الإسلاميين – بتحليل فقيري. ويرى فقيري أن مثل هذا الخطاب يمكن أن يعزز ما أسماها "أوهامًا وضلالات"، ملقيًا باللائمة على الحركة الإسلامية، لأن "التنظيم لم يستطع تخليص نفسه من ربقة الإنقاذ، وتجديد قادته ورؤيته إزاء السودان والمساهمة في أسئلة المستقبل".

ويؤكد فقيري أن تراكمات غياب الإرادة لدى الإسلاميين انتهت إلى إمكانية زوال الدولة التي لا ينفي تقديمهم حاليًا لكثير من التضحيات – سهمَهم الوافر في "بؤس الحال وحال البؤس" الذي نعيشه – حسب تقديره، ذاكرًا ومذكرًا بمقدرة الإسلاميين على تغيير الواقع الاجتماعي لتجذرهم وامتداداتهم داخل الجسم الاجتماعي السوداني – حسب قوله، فضلًا عن تجاوزهم لحوزة العرقيات والإثنيات ومنطق التقسيم المناطقي والهويات الجزئية الضيقة إلى هويات أكثر انفتاحًا تتسق وأفق الدين نفسه – وفق تقديره.

ويرى فقيري أن الأمر يتطلب تضحية وتقديم تنازلات كبيرة من أجل الوصول إلى دولة سودانية "ذات أساس متين وراسخ"، مبينًا أن القتال دون خطاب سياسي لا يمكن أن ينتج سوى البؤس الذي يشي بحجم المفارقة التي تحويها الحكمة القائلة: "ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام".

وما بين مقام الوصاية والنصح تتراوح قراءة خطاب علي كرتي الموجز بزوايا نظر مختلفة لا يمكن أن تفلت من تنميط السردية وسردية التنميط إلا بجهد حثيث ورؤى مستبصرة ومتعذرة لكثير من الناس وفي كثير من الأحيان.