04-مارس-2020

من اعتصام القيادة العامة (Getty)

ابتدأ ديسمبر رحالًا بدويًا جائلًا في الأرض، غير مستقرٍ على حال، في علاقةٍ قلقةٍ بالمكان، يتمرن على الرقص الفردي بإيقاعٍ موسيقي جماعي وقادم من كل الجهات والنواحي، لمحايثة مسطح ثورة ديسمبر نحن مطالبون بأكثر من ما نكتبه في السياسة، فالذي حدث فاق كل توقعاتنا البسيطة والمشكِكة؛ ما حدث هو تعدد شبكي، صياحات، تأتي من بعيد، تتقاسم ذات الجغرافيا، منفلتة من براثن المكان، ولكن تسبح على ذات المسطح، هذيانٌ، والهذيان لا يرى ولا يحيل لشيء سوى نفسه.

لحظة الموكب يصحبها شعور جذريٌّ بالحرية،  لحظةُ فردانيةٍ وهذيان مطلق، لا ينشغل فيها الثائر بقيمة جسده؛ لأنه يتحرر من سطوته

 في ديسمبر الجليل، لم يكن الثوري فينا يهتف مع الآخرين، أو يحيل لمعجمٍ أو خطابٍ سياسي معين، بل هو يصيح لنفسه، وبالقرب منه آخرون، يصيحون أيضًا؛ كان الثوري منا بهذا المعنى، سعيداً، ومليئًا بالمرح، المرح الذي يتحول للحظات لمأتمٍ، ثم يعود سريعًا، متذوِّتًا مع الآخرين، من نبع القوة، والوجود المشترك، شراكة لا تقول أي شيء، ولا تطلب شيء، تنشد المستحيل، وهي بذلك تريد ما ليس موجودًا، عطية بلا مقابل، و "مطلوبها ليس عند أحد"* وليس في شيء.

اقرأ/ي أيضًا: لغة الثورة الصادقة الركيكة

لقد كان ديسمبر لعبة الحياة المنشودة منذ الطفولة. فبتجوالها البدوي رسمت ثورة كانون الأول/ديسمبر علاقات جديدة ومتنوعة بالمكان، فقد كان هنالك جدول ثوري يخرج من صفحة تجمع المهنيين السودانيين على الفيسبوك (التي تم قبولها كمنسق وقائد للثورة)، يدعو الجموع للتظاهر بالأحياء أحيانًا أو بمناطق مركزية كالسوق العربي بالخرطوم أحيانًا أخرى، وهذا نوع من "حرب الأحياء " حرب لأن المتظاهرين مارسوا فيها تكتيكات الحروب من حفر لأنفاق وعمل التروس، انطلاقًا من الأحياء السكنية  إلى مراكز السلطة برمزيتها الاقتصادية والسياسية "تظاهرات السوق العربي المتجهة إلى القصر الجمهوري". ظلت هذه المواكب تُمرِّن المكان على نوعٍ جديدٍ من الحياة، حياة مكثفة لم تشهدها هذه المناطق بطبيعتها، التقليدية أو الاقتصادية. كان سيل المواكب يتحرك بهذه الأجساد اللامرئية في فضاء السلطة، لفتح وتحرير المكان من سلطة الطاغية وكل سلطة.

فلم تكن المواكب مجرد حشد بشري، بل كانت فرادات وكثرات ومنازل لذوات تسكنها الحرية والمستقبل، ولكنه مستقبل معيش آنيًا في شكلِ حلمٍ سعيد؛ فاللحظة التي يهتف فيها الثوري وتنطلق زغرودة الثائرات معلنةً عن بداية الموكب، هي نقطة انطلاقة جديدة في علاقتنا بالمكان. يتحول المكان إلى شكل غير معهود. تتحول المباني من مكاتب وأسواق تجارية إلى ملاجئ تحمي المتظاهرين من الاعتقال أو القتل، ومن ممرات طرق لمسارات هرب، يخرج الشباب والشابات من كل فجٍ وممر بركانًا بشريًا في وجه السلطة، يتحرك الموكب قاصدًا وجهته المحددة سلفًا مع بعض التغيُّرات في المسار حسب ما تشاء الضرورة الثورية والقبضة الأمنية المشددة. لحظة الموكب هذه يصحبها شعورٌ وإحساسٌ جذريٌّ بالحرية، هي لحظةُ فردانيةٍ وهذيان مطلق، لا ينشغل فيها الثائر بقيمة جسده؛ لأنه يتحرر من سطوته أيضًا، إذ تسكنه طاقة هائلة، وتنبعث بداخله الحياة من ذر الرماد الديكتاتوري، حياة مكثفة، وانفعالات خلاقة وموجبة تقتل كل سؤال عدمي مثل: "ما الجدوى من الموت لأجل قضية كالعدالة لا أنتفع منها؟ لماذا عليّ أن أُعرِّض حياتي للخطر من أجل آخرين لا أعرفهم؟ لماذا لا أنجو لوحدي وأحافظ على وجودي الخاص؟".

من مشاهد الاعتصام (Getty)

ثم صار ديسمبر –بعد بداوة المواكب- فلاحًا يحرث أرضًا، ويُقيم علاقات جديدة بالمكان، بصحبة آخرين غرباء. لم يكن الاعتصام مجرد استقرار زراعي، بل كان الأرض الموعودة لبدويٍ يبحث منذ الأزل عن ذاته الضائعة بين صحراء السياسة ويباس التاريخ والنخب. ويحرسها إلى حين مجيء حصاد المستقبل والآتي. كان الاعتصام بمثابة "مزرعة للفلاحين" التي بدلًا من بذل ثمارها للحياة، قُطفت منها الرؤوس والأرواح. قد يبدو الاعتصام شكلًا للفعل والوجود المشترك ممركزًا في المكان وغير انتشاري، لكنه شكل له سرعة وبطء مختلفان عن أشكال وصيغ الوجود المشترك والفعل من مواكب وتظاهرات ووقفات احتجاجية.

اقرأ/ي أيضًا: "اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب

وضدًا لكل من يقول إن الاعتصام قد مَركَز الفعل الثوري، وأجهض المقاومة اللا ممركزة، والمشتتة على أبعاد المكان، وأن الانتقال من الشكل اللا مركزي للتظاهرات إلى الشكل شبه المستقر للاعتصام قد أضعف الحراك، وحصره في حدودٍ معلومة. أقول أن شكل البداوة التي كانت تتصف بها المواكب كان استراتيجية حربية لمحاصرة أجهزة الدولة القمعية وانهاكها، أما غاية الاعتصام فقد كانت بناء علاقات جديدة في شرط حرية تجريبية، لطالما أراد المتظاهرون الإقامة بالمكان وبناء علاقات مستقرة عبر الوجود المشترك، ولكن بالطريقة التي يريدونها بلا أي أوامر من جهة تفرض طرقها وسبل الحياة التي ترى أنها الصواب المطلق، وقانونها المقدس؛ إن سقف المطالب التي وُضعت بشعارات الاعتصام من (ما راجع أنا لي مطالب) إلى (سقطت ما سقطت صابنها) كانت مثالًا واضحًا على واقعية المطالب وعلى استحالتها السياسية في آن واحد، نسبة للعوامل المحلية والدولية، وتحالف القوى السياسية التي قادت الثورة واستراتيجيتها اللا ثورية، ومثالًا أيضًا على شكل العلاقة التي تشكلت بين المكان والمعتصمين، تلك العلاقة الحميمة التي أراد لها الثوار أن تصير أبدية.

لم يكن أفق الاعتصام سياسيًا فقط، بل كان مجتمعًا تجريبيًا جديدًا، بين ذوات حرة وجذرية في اختلافها عن بعضها

 ربما هذا البطء النسبي للاعتصام هو الذي جعل من الممكن صناعة علاقات جديدة في شرط اطمئنان نسبي وحرية تجريبية، يتم صنعها عبر التفردات والتذوتات والصيرورات. إن بطء الاعتصام، على مستوى التذوُّت، كان أسرع لحظة في الثورة، أسرع من كل لحظاتها الومضية الأخرى، إذ لم يكن أفق الاعتصام سياسيًا فقط، بل كان مجتمعًا تجريبيًا جديدًا، بين ذوات حرة وجذرية في اختلافها عن بعضها.

شذرة من قصيدة "رأيتُ مطلوبي" من ديوان "تناول المفعول" للشاعر محمد الصادق الحاج

 

اقرأ/ي أيضًا:

 الشهيد يلحم أبعادنا ويكتبنا بالدم

الثورة حالة حب