إن انعدام الفرصة لولادة عمل روائي يعتبر في مقبل السنوات مرجعًا يؤرخ لاجتياح فيروس كورونا الجديد للعالم، يبدو لوهلة تعليليًا في المقام الأول. لانتفاء الدافع المتمثل في الحاجة الملحة لكتابة الرواية التاريخية وذلك بما تتيحه اليوم أدوات القرن الواحد و العشرين في التأريخ يومًا بيوم وساعةً بساعة.
لكن ولأن التاريخ ليس غاية الرواية التاريخية في ذاتها وإنما نهجٌ من مناهجها، فسيظل الأمل القائم في أعمال قيّمة وذات أثر في خارطة الأدب مستقبلًا تحكي عن صراعاتنا التي نخوضها اليوم ضد الوباء الذي يجتاح العالم رغم التحدي الماثل من داخل الرواية نفسها. هذا التحدي الذي يمكن أن يكشف جزءً منه قارئ اليوم لرواية بذات السمة مثل "دفتر أحوال عام الطاعون" للكاتب الإنجليزي دانييل ديفو في العام 1722، والتي تحكي يوميات مدينة لندن في زمن الطاعون. بسبب التشابه إلى حد كبير بما عاصرناه اليوم و منذ الاعلان عن مرض كوفيد-19 وباءً عالميًا.
الروايات المؤرخة للأوبئة ظلت إلى ذويان رغم أن الأعمال كانت تظهر هنا وهناك لتلقى الضوء على فصلٍ من فصول صراع البقاء للإنسان باختلاف الأمراض
و يمكن القول أيضًا بأن الروايات المؤرخة للأوبئة ظلت إلى ذويان رغم أن الأعمال كانت تظهر هنا وهناك لتلقى الضوء على فصلٍ من فصول صراع البقاء للإنسان باختلاف الأمراض، مثل الإنفلونزا الإسبانية التي حظيت برواية "حصان شاحب، فارس شاحب" لـ"كاثرين بورتر"، لكن الأحداث في النهاية تبدو متشابهة ومكررة رغم اختلاف الزمان والمكان والمرض نفسه. و حتى وجهة النظر التي ينقلها لنا الراوي على لسان شخصياته المعايشة للكارثة.
اقرأ/ي أيضًا: أشباح الماضي ترتدي أقنعة الحاضر
هذا مجرد رأي لقارئ -معتبر نوعًا ما- باعتبار ما حدا بمارغريت أتوود الخروج من الحلقة بتدوينها لرواية ابتكارية عن وباء لم يقع بعد تتسبب به آلة الانسان وطموحه في التطور. مغيرةً في الوقت نفسه زاوية السرد لكل ما كان قد سبق من أعمال، فقد واصلت عرض صراع الإنسان للوباء و آثاره اللاحقة. فتنتقل الكاتبة الكندية الجنسية إلى حدثٍ أكثر ترويعًا من فقدان الأرواح قبل الانتصار الكامل للإنسان على المرض. و تصحبنا بالزمن إلى ما بعد ربع قرنٍ من فناءٍ تم لمعظم سكان الأرض بسبب الطوفان الذي أغرق الأرض.
هذا العمل الاستبصاري لمآلات الثورة الصناعية وتبديد الموارد وأمن الإنسان لمكر الطبيعة واستنفادها يكشف بجانب الخيال المبتكر والمتماسك للكاتبة، مللًا من عملية التأريخ التقليدية لمعايشة الإنسان للأمراض في رواية، خصوصًا لو كانت الرواية صادرة حديثًا في العام 2009.
هذا الابتكار له جذوره طبعًا، و لعله كان سليل الملل الذي أطلقته سحرية ماركيز وباء الأرق والنسيان الذي ضرب ماكوندو في "مائة عام من العزلة" وأيضًا "عمى" ساراماغو وكذلك ما فعلته ماري شيلي بـ"الرجل الأخير" وما أسسه جيم غريس في "بيت الآفات". كأن الطريق و منذ زمن طويل تفرعت بهذا النوع من الواقعية التاريخية إلى أزقة الخيال.
اقرأ/ي أيضًا: الفيروس النيوليبرالي المُعوَّلم
لا يمكن الحكم نهائيًا على عجلة حركة الروايات التاريخية التي تدور قصصها عن الأوبئة بالتوقف. لكن يمكن الجزم بنسبتها لصفة التباطؤ، ربما بسبب استنفاذ ثيماتها الأساسية. يمكن رؤية ذلك عند استصحاب أن الرواية التاريخية على اختلاف موضوعاتها ظلت تواجه الصعوبات، وكجزءٍ من الحركة الروائية تشترك في عموم إشكاليات الرواية.
تاريخ الرواية يجعل من الروايات الممعنة في انشغالها بالهموم الفردية محطات بارزة في الأدب
و بتتبع الروايات التي لا يمكن الاختلاف على ثقلها على مر التاريخ الإنساني والتي كان موضوعها الاساسي المأساة الجماعية كالحروب والأوبئة. نجدها قد تدرجت في بنيتها الداخلية بمسلمات المأساة الفردية. يعضد ذلك تاريخ الرواية نفسه، والذي يجعل من الروايات الممعنة في انشغالها بالهموم الفردية محطات بارزة في الأدب. وليس ذلك إلا نتاج الثورة الداخلية في البنية الروائية التي حولت انتباهها الى صراعات الفرد الداخلية مما جعل أصحابها -مثل دوستويفسكي- روادًا للرواية الحديثة، ويجعل من رواياتٍ بعينها مصادر متجددة للدهشة ومكامن للتحليل حتى يمكن القول دون خوف الإخلال؛ إن الرواية عمومًا سلمت نفسها للذاهبين إلى التغلغل في النفس البشرية.
جدلية الراوي هنا تشبه تراتيبية فعل النظر إلى لوحة معلقة على جدار. تبدأ الرؤية بالصورة الكبيرة ككل مع الاطار و لون طلاء الجدار. قبل أن يتحول طابع الرؤية الشاملة هذه إلى التدقيق في الألوان داخل اللوحة وربما يكون صبورًا كفاية في مشاهدته تلك وصولًا لمطاردة ضربات الفرشاة على القماش و حدتها. بل واتجاهاتها التي سلكت ومرابض ألوانها الأولية.
طبيعة الفن الوحدية تُخلّف وراءها النمط. ذلك الذي يمكن تتبعه في تطور زاوية النظر للمدارس الفنية منذ الكلاسيكية وصولًا للمستقبلية. الكلاسيكيين لا يرون في الإنسان إلا كمال الأجساد و جمال الصورة. وهو ما انعكس على أعمالهم رسمًا ونحتًا. بينما المستقبلية باختصار تعمد إلى التجزئة في الشكل موليةً انتباهها شطر إنسان العصر.
والراوي كان يقف هنا دائمًا أمام لوحة الفنون الجامعة هذه بينما رؤيته تنتقل من شمولية الإطار الإنساني إلى التفحص المجزأ لكل عنصرٍ من عناصر اللوحة. وفي ذلك واقعية الديالكتيك وأن داخل الإنسان يتجدد بمر العصور. كذلك للموضوعات أن تتغير. كما يمكن لمواضيع بعينها الأخذ في الاضمحلال.
اقرأ/ي أيضًا: تخليص الإبريز في تلخيص باريز.. والكورونا والأفندية
هذا الانتقال ككل لا يمكن أن يُرى بمنأى عن حركة التاريخ نفسها واعتبارات كل عصر من سابقه واختلاف أدواته. وفي عصر الانترنت والمعلومة التي تنتقل حول العالم في دقائق ومشاهدة الحدث من داخل الحدث نفسه وبأبسط الإمكانيات تضحي فكرة التأريخ نفسها من داخل الرواية -تأريخ المأساة الجمعية عن طريق تأريخ المأساة الفردية- مهمةً شاقة. بطريقةٍ أخرى، فإن الرواية ربما نظرت مافيه الكفاية إلى دواخل الإنسان بمنظار الكارثة الجمعية.
لطالما كان سحر الحكي والأخبار والتلقي عن الراوي يكمن في الاكتشاف المتجدد للآخر البعيد، وفي التعرف عليه ككل
و في ظل إمكانيات اليوم، يظل الكل في متابعةٍ لصيقةٍ للكل. فبضغطة زرٍ يمكنك أن تحوز وفي زمنٍ قياسي أثر جائحةٍ ما على الوشائج الاجتماعية في حواري بوغوتا مثلًا، مما يجعل لاحقًا رواية عن نفس الجائحة يرويها راوٍ من بوغوتا نفسها موضوعها يتمركز حول ما أحدثته الجائحة في نسيجه الاجتماعي عملًا اطلاعيًا يخلو من الدهشة كاملة الدسامة. مما يجعل الرواية في تحدٍ أكبر من أزمنةٍ مضت. بالطبع نجاح الأمر من عدمه عائدٌ في النهاية إلى كيفية عرض الراوي للحدث والإمكانيات التي تحتكم إليها أدواته، إلا أنه لن يخلو في كثيرٍ من المواضع من شبهة متابعة لصيقة لنشرة اخبار تُعاد تلفزتها بلغةٍ أخرى.
ذلك أنه لطالما كان سحر الحكي والأخبار والتلقي عن الراوي يكمن في الاكتشاف المتجدد للآخر البعيد، وفي التعرف عليه ككل. وحتى كيف أنه يختلف عنا عند الخطوب وأيضًا كيف نتشابه جميعنا في النهاية -اقتبس من سينيكا- حتى لا نكون شيئًا سوى أمواجٍ من نفس البحر.
اقرأ/ي أيضًا