06-يوليو-2022
نظاميون سودانيون وعلم السودان

أثار إعلان البرهان عن تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة الكثير من الجدل وسط القوى السياسية والمتابعين (Getty)

أكثر من ستين عامًا ظلت معركة الشرعية السياسية بين العسكر والمدنيين هي القضية المحورية في واقع السياسة السودانية، ثلاث مرات استولى فيها الجيش على السلطة في السودان، ابتدرها الجنرال إبراهيم عبود في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1958، وكررها الجنرال جعفر نُميري في شهر أيار/مايو في عام 1969، وأعاد الجنرال البشير الكرة في شهر حزيران/يونيو في العام 1989.

وعقب كل نجاح للعسكر في الاستيلاء على مقاليد الأمور في البلاد، تنخرط المكونات المدنية والحزبية في معركة مقاومة تستند على شعار رئيسي مفاده "العسكر للثكنات". وتباينت سنوات المقاومة للحكم العسكري في السودان ما بين ست سنوات في مواجهة الجنرال عبود و(16) عامًا ضد الجنرال نميري، وبلغت (30) عامًا بالتمام والكمال في عهد الجنرال البشير؛ لكن في كل الأحوال كانت إرادة الجماهير الراغبة في حكم مدني ديمقراطي هي من تنتصر في آخر المطاف.

ثمانية أشهر من المواجهات بين السلطة الانقلابية والشارع المقاوم ختمها قائد الجيش بإعلان انسحاب العسكريين من العملية السياسية

بعد إصدار قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان لقرارات 25 تشرين الأول / أكتوبر 2021، والتي أطلق عليها قرارات إصلاح مسار الثورة، فيما وصفها أخرون بـ"الانقلاب"؛ ردت عليه لجان المقاومة بعبارة مفادها "قدرنا أننا الجيل الذي سيدفع تكلفة نهاية الانقلابات العسكرية، ولن نؤجل هذه المعركة" مقرونةً بهتافات "يسقط حكم العسكر" و"العسكر للثكنات".

ثمانية أشهر من المواجهات بين السلطة الانقلابية والشارع المقاوم ختمها رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان مساء الرابع من تموز/يوليو حينما أعلن عن انسحاب الجيش من العملية السياسية وحصرها على المدنيين من أجل التوافق على تشكيل حكومة. وأعلن رئيس مجلس السيادة عن حل المجلس السيادي الذي يتكون من شراكة بين المدنيين والعسكريين وتشكيل آخر مدني، بينما يذهب العسكر إلى مجلس الأمن والدفاع.

تخلي الجيش عن الحوار والشراكة وشرعية الحكم؛ سرعان ما طرح السؤال: هل قرر العسكريون الاستجابة لمطالب الشارع العودة للثكنات؟ وهل ما أعلنه قائده هو إعلان الخروج النهائي للجيش من السياسة؟

يجيب تحالف قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي" على سؤال مغادرة الجيش السياسة بالنفي. وفي مؤتمر صحفي عقب خطاب البرهان، رأى في قرارات البرهان بمثابة الاستمرار في مشروعه الانقلابي - بل أنه وبدلًا من أن يكون الجيش شريك في العملية السياسية، سيتحول بموجب القرارات إلى وصي عليها.

مجموعة المجلس المركزي رفضت قرارات البرهان، ووصفتها بأنها "مناورة مكشوفة" وتراجعًا تكتيكيًا، يقبل ظاهريًا بمبدأ عودة الجيش للثكنات، مع إفراغ هذا المبدأ من محتواه. مشيرة إلى أن عودة الجيش للثكنات لا تتم بفرض وصاية من قائده.

يقول رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير لـ"الترا سودان"، إن تفسير قرارات قائد الجيش بأنها خطوة نحو مغادرة العمل السياسي والاكتفاء بالدور المعروف للقوات المسلحة في الدولة الحديثة، بالنسبة للدقير فإن تفسير العودة للثكنات تعني ترك القوات المسلحة القيام بأي أعباء غير تلك المرتبطة بدورها في حماية الحدود والدستور.

https://t.me/ultrasudan

وبحسب الدقير فإن مجرد الإعلان المبهم عن تكوين مجلس للأمن والدفاع تأكيد على أن الخطاب لم يعد الجيش إلى ثكناته، كما أن الحديث عن سلطات مجلس الأمن والدفاع يؤكد على فرضية أن الجيش عاد إلى ثكناته حاملًا معه كل السلطات إلى الثكنات، وفي هذه الحالة فإن الجيش الذي أعلن عدم رغبته في الحكم سيكون هو المتحكم في العملية السياسية برمتها، خصوصًا إذا ما وضعنا في الاعتبار أن قرارات قائده أشارت إلى أنه وفي حالة عدم توافق القوى المدنية سيتم الإعلان عن قيام الانتخابات.

وفي ذات السياق يمضي القيادي بتحالف المجلس المركزي طه عثمان، قائلًا بعدم خروج الجيش من العملية السياسية. طه في حديثه لـ"التراسودان"، يصف القرارات الأخيرة بـ"الخدعة الكبرى التي تحاول الحفاظ على سلطات الانقلاب وفي الوقت نفسه تحاول تسويق فكرة مغادرة العسكر السلطة"، خصوصًا في ظل وجود تسريبات بممارسة مهام السيادة، وجوانب متعلقة بالسياسة الخارجية، وبنك السودان.

ويضيف طه: "الجيش لم يخرج عن السياسة، بدليل أن البرهان لم يذكر كيف سيتم تشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مما يعني أنه سيشارك في السلطة، وبما أن الجيش والدعم السريع في رئاسة المجلس وبحوزتهما القوة العسكرية، فإنه لا أمان ولا تأكيد لفكرة وجود حكم مدني مع قوة السلاح، وربما يتم الانقلاب عليه كما حدث في تشرين الأول/أكتوبر 2021، رغم أن الاتفاق يومها كان بشهود دوليين"، وفقًا لتعبيره.

وبحسب خبراء عسكريين، فإنه في ظل الوضع السياسي الحالي وإلى مدى (10 - 15) سنة؛ لن يخرج الجيش من السياسة، وسيكون فيها بطريقة غير مباشرة مثل إتاحة انتقال وتطور سياسي نحو نظام ديمقراطي، باعتباره الضامن لتحقيق هذا الهدف والمسؤول عن عدم انزلاق البلاد نحو سيناريوهات الفوضى.

وفي تصريحات لصحيفة "السوداني" اليومية، حذر القيادي في حزب المؤتمر الوطني المحلول أمين حسن عمر من أن تعبر قرارات قائد الجيش عن (تملص) من المسؤولية الوطنية والدستورية، قائلًا إن هذا مرفوض. كما حذر في تصريحاته من النأي بالجيش عن ما يجري في الساحة العامة، لأن واجب الجيش هو حفظ الأمن والاستقرار والحقوق الدستورية للمواطنين.

الانتباهة: تلقى قادة الجيش في مختلف الوحدات بالولايات يوم الأربعاء إشارة من القيادة العامة بشأن إعفاء الولاة

وفي الأثناء تلقى قادة الجيش في مختلف الوحدات بالولايات يوم الأربعاء إشارة من القيادة العامة بشأن إعفاء الولاة بحسب ما نقلت صحيفة "الانتباهة" عن مصادر متطابقة في ثلاث ولايات، قائلة إن "الإشارة طالبت القادة العسكريين بالاستعداد الكامل والتجهيز لعملية التسلم من الولاة"، وهي الخطوة التي تشير إلي إبدال حكام الولايات المكلفين من المدنيين بحكام عسكريين. فيما أصدر رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان قرارًا بإعفاء المدنيين الخمسة من المجلس عقب خطابه الأخير.

أما الذين أيدوا الجيش في انقلابه من تيارات محسوبة على الإسلاميين والإدارات الأهلية وغيرهم، فيعتبرون أن خطاب البرهان وخاصة الجزئية المتعلقة بخروج الجيش من السياسة خطوة ممتازة، وأن الهدف الرئيسي منها تحقيق الاستقرار في البلاد، مشيرين إلى أنها تعبير عن انحيازه لمطلوبات الشارع الذي طالبه بالعودة للثكنات، مطالبين القوى الحزبية أن تلتقط قفاز المبادرة وأن تقوم بواجباتها المناطة بها، بعيدًا عن لغة التخوين والتخذيل والاتهامات.