منذ أن رحل درويش في التاسع من آب/أغسطس من العام 2008 والكمنجات تبكي على زمن ضائع لا يعود، كيف لا وقد وقد ترجل فارس القصيدة عن ظهر الحصان ليتركه وحيدًا، فخمسة عشر عامًا لم يمسك فيها درويش بلجام حصانه كانت كافية لتؤكد للحصان أنه لن يفعل ذلك مرة أخرى وإلى الأبد.
في فبراير من العام 2006 جاءت زيارة محمود درويش الأخيرة إلى السودان، وتتزامن ذكرى وفاته هذا العام مع أحداث صاخبة أدت إلى نزوح الملايين من الخرطوم
بالقرب من ساحة "عكا" بمدينة الجليل تحديدًا بقرية "البروة" كان الميلاد، فقد ولد الشاعر في 13 آذار/مارس من العام 1941. ويُذكر أن أسرته كانت ممن لجأوا إلى لبنان بعد نكبة العام 1948، بينما عادوا متسللين إليها بعد عام، ليجدوا الاحتلال قد حولها إلى قرية زراعية إسرائيلية، ويرى الكثير من النقاد أن لهذا الحدث دور كبير في تشكيل وجدان الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
بعد انتهائه من المرحلة الثانوية التحق الشاعر بالحزب الشيوعي الإسرائيلي وعمل مشرفًا على تحرير صحيفة "الاتحاد"، وابتعث إلى موسكو وبدأ دراسته في معهد للعلوم الاجتماعية. والجدير بالذكر أن درويش اعتقل خلال حياته عديد المرات في الفترة من العام 1961 وحتى العام 1972 جراء مواقفه وتصريحاته السياسية، وهي أحد الأسباب التي أهدى فيها إلى العالم قصيدة "إلى أمي"، وقد جاء على لسانه أن والدته كانت تزوره في السجن تحمل له معها الخبز والقهوة، بينما يمنعها الحراس من إدخالها إليه، فتصر هي على ذلك، يقول إنه كان يشاهد الأسى في عينيها من أجله فكتب "أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي.. وتكبر في الطفولة يومًا على صدر يوم، وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي"، بمثابة اعتذار عن الأسى الذي سببه لها، فصارت هذه الأبيات أنشودة يرددها الجميع.
وبعد معاناة درويش مع الاعتقال انتقل إلى العيش لاجئًا في القاهرة، ثم التحق في العام نفسه بمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم قدم استقالته منها فيما بعد اعتراضًا على اتفاقية أوسلو.
ريتا والبندقية
يشكل الحب دومًا مصدر إلهام للعديد من الشعراء والكتاب، وقد طالت يده قلب الشاعر درويش ليقع في حب ريتا. وتساءل الجميع عن هويتها لسنين عديدة، حتى أفصح عنها هو بنفسه في إحدى المقابلات الصحفية. ريتا وهي فتاة يهودية إسرائيلية كانت تعمل راقصة، وشاءت الأقدار أن تؤدي رقصاتها بالحزب الشيوعي الذي كان ينتمي إليه درويش.
نشأت بينهما قصة حب عميقة انتهت بالتحاق ريتا بسلاح الطيران الإسرائيلي لتخلق مسافات كبيرة بينهما لا يمكن أن تقدر إلا بالوصف الدقيق الذي قدره هو حين قال في إحدى قصائده الشهيرة: "بين ريتا وعيوني بندقية!"
ويذكر أن قصة الحب هذه جسدت في فيلم وثائقي للمخرجة ابتسام فراعنة حمل اسم "سجّل أنا عربي" في مهرجان تل أبيب، وقد أثرت تجربة ريتا في وجدان الشاعر تأثيرًا واضحًا في إنتاجه الأدبي وحياته الشخصية أيضًا، مؤكدة المقولة الشهيرة ما الحب إلا للحبيب الأول، بعد زيجتين دخل فيهما الشاعر خلال حياته انتهت كلاهما بالانفصال.
زياراته إلى الخرطوم
بدعوة من مركز الدراسات السودانية في شباط/فبراير من العام 2006 جاءت زيارة محمود درويش الأخيرة إلى السودان، وتتزامن ذكرى وفاته هذا العام مع أحداث صاخبة أدت إلى نزوح الملايين من الخرطوم ولسان حالهم يقول تمامًا ما قاله درويش: "فإن البيت أبعد.. والطريق إليه أجمل".
تزينت مدينة "ود مدني" بأولى أمسياته كأنها كانت تغار من مسارح الخرطوم في أن يكون لها السبق في استضافة درويش. أقيمت الأمسية الشعرية في مسرح الجزيرة وشهدت حضورًا حاشدًا، وتلتها أمسية شعرية أخرى بمدينة أم درمان التي غسلت شعرها في تلك الليلة بقوافي درويش التي استطاعت أن تكسر بحور الشعر الهادرة لتعطينا أجمل قصائد التفعيلة. والجدير بالذكر أن الأمسية أقيمت في قصر الشباب والأطفال، فيما جاءت الأمسية الثالثة في جامعة الخرطوم حيث نظمت في الميدان الشرقي، والأخيرة بقاعة الشارقة.
وفي الزيارة نفسها شهدت قاعة الصداقة حوارًا مفتوحًا بينه والكتاب والمثقفين والشعراء السودانيين وثقت له مجلة الثقافة السودانية، فيما عقدت اتفاقية بينه بصفته رئيسًا لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين بالإضافة إلى كونه رئيس تحرير لمجلة "الكرمل" مع دار جامعة الخرطوم للنشر، وذلك من أجل توزيع أعداد المجلة عبر مكتباتها.
والجدير بالذكر أن الزيارة الأولى للشاعر إلى السودان كانت في العام 1986 عقب انتفاضة الشعب على الرئيس جعفر نميري، ليتعرف فيها للمرة الأولى على السودان.
توفي الشاعر الكبير محمود درويش في الولايات المتحدة الأمريكية إثر غيبوبة بعد أن أجريت له عملية قلب مفتوح لم ينج منها
توفي الشاعر الكبير محمود درويش في الولايات المتحدة الأمريكية، إثر غيبوبة بعد أن أجريت له عملية قلب مفتوح لم ينج منها، وقد كان الشاعر يعاني من مشاكل في القلب، ونجى مرات من موت محقق، وذات مرة كتب محتفلًا بنجاته: "فافرح بأقصى ما استطعت من الهدوء لأن موتًا طائشًا ضلّ الطريق إليك من فرط الزحام وأجلك"، ولكنه استسلم في نهاية المطاف تاركًا لنا خلفه "أثر الفراشة".