21-نوفمبر-2019

قيادات من قوى إعلان الحرية والتغيير (Getty)

يقول أبو الطيب المتنبي في بيت الشعر الذي وصف بأنه كتب بقلم المتنبي الفيلسوف وليس الشاعر: "ومن يجد الطريق إلى المعالي فلا يذر المطي بلا سنام.. ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام"

أستعير هذا البيت الرائق كبداية واستهلال وتأسيس أدبي لهذه الرسائل التي يريد المرء إيداعها في بريد النخبة السودانية لا النخبة السياسية فقط وإنما الاجتماعية والثقافية التي تدور جل أقانيم الرأي العام على حسب ما ترى هذه النخبة وتقول. ويكمن وجه استدلالنا بقول المتنبي "نقص القادرين على التمام" أن بلدنا السودان لا تعوزه التجربة السياسية ولا التاريخ الثوري ولا الوعي الشعبي ولا تأهيل أبنائه، وإنما تتوزع مشاكلنا بين الموروث والمكتسب وبين أدواء المجال السياسي القديمة التي تحول دون تفعيل هذه الإمكانات. وكما قال قيس بن الملوح " ألا إن أدوائي بليلى قديمة.. وأقتل أدواء الرجال قديمها" - مع التأكيد أنه لا يزال هناك مجال للفعل والحلول التي لا نريد أن نصف عجزنا عنها بأنه عجز القادرين على التمام، ففضاؤنا السياسي قادر تمامًا على الاستفادة من هذه الإمكانات متى توفرت الإرادة السياسية/الاجتماعية، ونحاول عبر هذه الرسائل تسليط بعض الضوء على بعض القضايا القديمة المتجددة مثل السلام وتحسين معاش الناس، فيما يسميه بعض المنظرين "بقضايا الحكم الجوهرية".

نتناول عبر هذا المقال الأول المحددات النظرية العامة التي تنطلق منها هذه الرسائل في النظر لقضايا الواقع-القديمة المتجددة- المتعلقة بالسلام ورفع الضائقة المعيشية

نتناول عبر هذا المقال الأول المحددات النظرية العامة التي تنطلق منها هذه الرسائل في النظر لقضايا الواقع-القديمة المتجددة- المتعلقة بالسلام ورفع الضائقة المعيشية، وبما أننا الآن في فترة انتقالية تتسم بما تتصف به عموم الفترات الانتقالية التي مرت بالبلاد؛ بـ"بالهشاشة" في واقع يعج بفخاخ اللااستقرار، عليه ستركز معالجات هذه الرسائل على التعاطي أو التواصل مع ما نحسبه جذور للاستقرار الذي سيساعد في الانتقال ويهيئ الأجواء لتفعيل الإرادة السياسية والفعل الاقتصادي لما بعد الفترة الانتقالية، وكل ذلك عبر التاريخ السياسي للبلاد وما نظنه تحليلات مناسبة تحوي قدرًا من الصواب.

اقرأ/ي أيضًا: ثورة نسوية أم ثورة الثورة بلغة جموع النساء؟

وبما أننا سنتحدث عن قضايا تتعلق بالاستقرار والسلام ورفع الضائقة المعيشية وأخطار الاستقطابات والصراعات الصفرية على الفترات الانتقالية فهناك ثلاثة تأسيسات نظرية رئيسية يجب توضيحها والاتفاق عليها قبل الاسترسال في لب الرسائل.

التأسيس النظري الأول

يجب علينا بدءًا أن نحدد من نعني بالنخبة؟ ولماذا نخاطب النخبة بالذات؟

يعني فقهاء الاجتماع السياسي بمصطلح النخبة أو الصفوة في الغالب المجموعة التي يعزى إليها مصدر التحكم السياسي في المجتمع،  بمعنى الفئة التي تحكم المجتمع سياسيًا، وطبعا تم ابتذال المصطلح بالتكرار الكثير في أرجاء الفضاء العام حتى فقد جوهره الرئيسي، وهذا الجوهر هو معنى "التحكم" وعندما نطلق هذه اللفظة فنحن لا نعني التحكم/الحكم السياسي فقط وإنما نعني بذلك التحكم الاجتماعي في الفضاء العام، أي نعني به الفئة صانعة الرأي العام في المجتمع الفاعل. ولمصطلح النخبة عدد من الاستخدامات، ولكن نقصر معناه ومداه في هذه الرسائل على الفئة التي تصنع الرأي العام وتقوده وتؤثر بدورها في الفعل السياسي. والجدير بالذكر أن هذه الفئة حديثة الظهور نسبيًا، إذ كان الرأي العام يصنع ويتشكل في الماضي عبر وسائل الإعلام، كالتفاز والصحف والمذياع لذلك كانت هذه الوسائل أول ما تضع عليها سلطات الاستبداد السياسي يدها على مر العصور والأمكنة، فمن ملك الإعلام ملك ناصية الرأي العام، ولكن مع ظهور وسائل التواصل الحديثة ظهر مجال تفاعلي جديدي خارج نطاق السلطة الحاكمة وأصبح ذا أثر فاعل في على السلطة والمجتمع يتأثر بها ويؤثر فيها. لذلك نتقصد برسائلنا هذه نخبة صناع الرأي العام على وسائل التواصل الاجتماعي بمثقفيها وفنانيها ورياضيها وكل الشخصيات العامة ذات الصوت المسموع على هذه الأصعدة.

اقرأ/ي أيضًا: من المسؤول عن جهاز المخابرات العامة؟!

التأسيس النظري الثاني

هو الذي تنطلق منه هذه الرسائل ومفاده أن الدولة الحديثة بها جانب ذو طبيعة خدمية يمكن الارتكاز والبناء عليه.

للدولة الحديثة طبيعة ايديولوجية وطبيعة خدمية، والطبيعتان بهما شيء من التداخل والتشابك، فلا يمكن تصور دولة حديثة مفرغة من الايديولوجيا تمامًا، كما تجدر الإشارة إلى أنها-أي الدولة الحديثة- تحوي كذلك بالضرورة قدرًا من العلمنة بالمعنى الدنيوي، هذا الجانب الخدمي/الدنيوي الذي يحتاجه عامة الناس هو الذي يجب أن يحكم و يوجه كافة كسب الفاعلين السياسيين سواء كانوا في الحكم أو المعارضة. فمع الإقرار أنه لا يمكن الفصل التام والمطلق بين الطبيعة الايديولجية والخدمية للدولة الحديثة إلا أنه يمكن إدارة وترشيد الطبيعتين بما يخدم الغرض الرئيسي الذي يحتاجه البلد و هنا نأتي للتأسيس النظري الثالث للرسائل.

التأسيس النظري الثالث

نفع المواطن السوداني البسيط ورفع الضائقة المعيشية عنه كقطب رحى للفعل السياسي.

هذا التأسيس الثالث على بداهته وقربه من الذهن إلا أنه يحتاج كثيرًا من الطرق والتوضيح والتكرار، فمع تكاثر المجريات السياسية اليومية يغلب على التدافع السياسي أو الجدل النظري في المجتمع المدني طبائع شكلية ومعارك طواحين هواء أقل ما يمكن وصفها به أنها هموم ورغائب صفوية لا تجيء بالنفع المباشر للمواطن البسيط، وأذكر هنا التفريق والمقابلة اللطيفة التي أوردها الدكتور منصور خالد بين الحقوق الطبيعية والحقوق المدنية، حيث أوضح أن الحقوق الطبيعية مثل حق البقاء والحياة والعيش الغير ضائق معيشيًا هو الذي حمل أهل الريف والنجوع النائية على التجاوب مع الشارع الخرطومي في إزاحة عبود، وليست هي الحقوق المدنية مثل حق التجمع وحق التنظيم وحق التعبير ولئن أصبحت هذه الحقوق هي التي تتجحفل وراءها القوى الديمقراطية في أوروبا، فما ذلك إلا لأن تلك البلاد قد تجاوزت أزمات البقاء والحياة من زمان بعيد وأصبح في مقدور أهلها أن يقولوا: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وطبعًا ليس المقصود من ذلك التقليل من شأن بقية الحقوق ولكن فقط المراد وضع اليد على أولى أولويات الفعل الأساسي والاجتماعي في راهننا الحالي، وهو الحبل الناظم الذي يجب أن ينظم كل الأفعال في الفضاء العام.

بهذه التأسيسات الرئيسية حول النخبة والدولة والمواطن، يمكن أن ندلف في مقالنا القادم إلى لب رسائلنا للنخبة مستصحبين هذه الرؤى ومساهمين في إلقاء بعض الضوء على هموم واقعنا السوداني.

 

اقرأ/ي أيضًا

رفقاً بـ"حمدوك".. نُخب فاشلة أم بُناة دولة؟

الحقّ في الفوضى