28-نوفمبر-2020

(الترا سودان)

على عكس ما يشاع ويتخيل الناس، رأى الإمام الراحل الصادق الصديق عبدالرحمن المهدي، أنه لم ينشأ وعلى فمه ملعقة من الذهب، كحال ابن "شغبة المرغمابية" ذات الجذور الكاهلية في نفيه لمشباهته بها، هو نفسه الذي ينتسب للكواهلة بأمه، فبحسب ما يرى فقد كابد الحياة وابتلي بالسجن لسنيين تطاولت حد أن وصلت ثامني سنوات حسومًا بحسب ما كتب في أواخر أيامه التي عانى فيها الإصابة بفيروس كورونا.

ما تعرضتُ له من مشاق دفعني لاجتهادات نضالية وفكرية غير مسبوقة في جيلي

يقول الصادق المهدي في مقالٍ له أواخر أيام حياته: "ما تعرضت له من مشاق دفعني لاجتهادات نضالية وفكرية غير مسبوقة في جيلي: انتخابات لرئاسات وأنا في نعومة أظفاري، ويعلم الله فرضت علي بإرادة الجماهير لا بتدابيري. وألفت من الكتب في شتى الموضوعات ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، ووضعت على صدر مكتبي قول الحكيم: 

على قدر فضل المرء تأتي خطوبه

ويحسن فيه الصبر فيما يصيبه

 فمن قل فيما يلتقيه اصطباره

لقد قل فيما يرتجيه نصيبه

وفي منتصف حياته، وهو شاب سليل لأسرة تمرغت في الامتيازات التاريخية، وقف الصادق ممانعًا لتلك الامتيازات بامتناعه فجأة عن الدراسة في جامعة الخرطوم، في حادثة تركت الكثير من التساؤل، لكن يبدو أن الشاب في ذلك الوقت رأى كأنما حياته سيرة مكتوبة، فذهب ممانعًا للنتائج الحتمية لامتيازاته الأسرية، إلا أن حدثًا آخر يؤكد أن المهدي لم يكن في حلٍ عن هذه الامتيازات مهما حاول، فقد طُوِّع له دستور السودان، في العام 1964 ليعدل له الدستور ليتلاءم مع سنه في ذلك الوقت (أقل من 30 عامًا) ما أشار إليه في الاقتباس أعلاه،  ليشغل منصب رئيس الوزراء للمرة الأولى في حياته، ما تكرر مرة أخرى في العام 1985 بعيد انتفاضة مارس-أبريل.

اقرأ/ي أيضًا: التغيير في أمريكا.. بايدن ومآلات التطبيع

تداعت عدد من الأحزاب السياسية، ورجالات الحكم والدولة والمجتمع، وحتى حزب الله اللبناني، لنعي الصادق المهدي المتوفى الخميس المنصرم، وأيضًا نقلت وسائل إعلام أن المخلوع البشير، الذي انقض على حكم المهدي نفسه في العام 1989، قد نعى الراحل من محبسه، حيث لا يبدو ذلك غريبًا، فقد كرّمه المخلوع البشير في عدد من السوانح بعيد اقتلاعه الحكم منه، فالمهدي الذي يرجع نسبه إلى الإمام محمد أحمد المهدي، تحوطه هالة من القداسة، تنأى به عن المصائر التي قد لا تليق بنسبه العريق وتكسوه وقارًا وهيبة.

المهدي ابن هذه الامتيازات، وجد نفسه في محنة دائمة، فالجميع عادةً ما يعلق عليه مآلات مصير السودان وضوائقه السياسية، بحكم تطاول وجوده السياسي منذ ستينات القرن الماضي وحتى أوان رحيله، يقول في ذلك الكاتب والباحث عبدالوهاب الأفندي، مبرئًا للمهدي في مقالٍ نشر في موقع العربي الجديد بعد وفاة الإمام: "غاية ما يتهم به التقصير، ومن منّا لا يقصّر؟ لهذا السبب، يدشّن رحيله عهدًا جديدًا في تاريخ السودان، فقد كان دائمًا رجل الملمات، ومحور الحراك السياسي. لم يقم تحرّك مهم منذ ثورة أكتوبر 1964 إلى ثورة ديسمبر 2018، إلا وهو في القلب منه".

حياته التي تطاولت حد ما بعد الثمانين، لطالما حفلت بالمواقف السياسية الجدلية، آخرها كان مواقفه من ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة، والتي تعاطت وسائل الإعلام معها بكثير من "سوء التأويل" على حسب ما يصور المهدي بحسب التفاسير والشروح والتي شغل بها الصادق نفسه لتعابيره المبتكرة، على شاكلة "بوخة مرقة - كاني ماني"، محاولًا تفادي التأويلات لتعبيراته التي طالما كانت مثارًا للجدل.

في أواخر أيام حياته، وقف المهدي ممانعًا للتطبيع الذي شرعت فيه الحكومة الانتقالية، مظهرًا رشاقة فكرية بائنة وهو يشخص أوجه الرفض للتطبيع في ندوة مطولة أمها الراحل في خواتيم تشرين الأول/أكتوبر الماضي، قائلًا إن الأساس للدولة الصهيونية هو شعار "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" ملحقًا ذلك بانسحابه من مؤتمرٍ للشؤون الدينية كانت تنظمه الوزارة المعنية بالأمر، احتجاجًا على التطبيع.

اقرأ/ي أيضًا: سلام جنوب السودان.. انشغال الضامن وغياب الوسيط

يذهب المهدي، في ندوته تلك، أن التطبيع ليس مشروعًا للدولة الإسرائيلية فقط، بل هو مشروع ممتد لتقسيم أراضي المنطقة، من ضمنها تقسيم السودان لخمس دويلات، بدأت بانفصال جنوب السودان في العام 2011، لتلحقها أقاليم أخرى بحسب المخطط الصهيوني على حسب ما يظن الصادق المهدي، في آخر المقالات المنشورة له.

برحيل المهدي تختل الخارطة السياسية السودانية

برحيل المهدي تختل الخارطة السياسية السودانية، وستفقد كتلة نداء السودان، في تحالف قوى الحرية والتغيير، أحد أضلعها المهمة، أو الأساسية، ليعاد تشكيل الخارطة السياسية بعيدًا عن السلطة التاريخية للمهدي وأنصاره. 

اقرأ/ي أيضًا

نظرة إلى المستقبل من شرفة الماضي

إثيوبيا.. حرب أهلية أم إقليمية؟