ما بين هبة أيلول/سبتمبر ٢٠١٣ بكل زلزالها والدماء العزيزة التي سالت وقتها في مواجهة نظام البطش والقتل، ومداولات المؤتمر الاقتصادي الذي اختتم أعماله أمس، تسمق قامة ثورة ديسمبر المجيدة بكل هتافاتها وجسارتها ومواكبها والدماء الغالية التي انسكبت فيها ما بين الشوارع والمتاريس وباطن النهر، حتى تكلل ذلك الزحف بهزيمة النظام وتصدع أركانه. وما بين كل هذه المسافة بشعاراتها الثلاثة حرية، سلام وعدالة، تتبدى قضية رفع الدعم كشاهد على تبدل المواقع والمواقف تبعًا لدوران الزمان ومقادير السلطة ومواقعها.
في سبتمبر ٢٠١٣ رفضت القوى المعارضة باختلاف مدارسها اتجاه الإنقاذ لرفع الدعم وشاركت في الهبة الجماهيرية
فما كانت سبتمبر في حقيقتها إلا هبة سودانية رفضت يومها توجه النظام البائد لرفع الدعم عن المحروقات والدقيق، وتطبيق وصفات البنك الدولي طمعًا في الفوز بجنان المجتمع الدولي ورضائه عن الدولة المارقة التي ولغت في دماء شعبها وجيرانه، فحطمت سبتمبر نواياه وهزمت توجهه وقضت على آخر أكاذيب انفتاحه السياسي حينما أضطر ليسفر عن وجهه الدموي، وأدار آلة الموت لتقطف أعمار الصغار الثائرين بلا رحمة، قبل أن يعودوا للشوارع من جديد مع أجيال شهدت حلقات النار والموت بعد خمس سنوات، ليذيقوه الهزيمة ويسقطوا صلفه ويمرغوا بدولته البوليسية التراب.
اقرأ/ي أيضًا: في ختام أعماله.. المؤتمر الاقتصادي يقدم أكثر من 160 توصية لإصلاح الاقتصاد
لقد شهدت الخرطوم يوم الاثنين ٢٨ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٠ ختام أعمال المؤتمر الاقتصادي الذي جمع الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية مع لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني، وذلك في مسعى للتوصل إلى رؤية مشتركة للتعامل مع الاقتصاد، بعدما اتجهت الحكومة من قبل لقبول وصفة صندوق النقد الدولي للإصلاح الاقتصادي الهيكلي والذي يشمل جراحة اقتصادية قاسية تتضمن وقف الدعم السلعي وتوحيد سعر صرف العملة مع الاتجاه لبرامج دعم الخدمات الاجتماعية والصحية.
قبيل انعقاد المؤتمر أعلن صندوق النقد أن الحكومة ستخفض دعم الوقود، وستعمل على توحيد سعر صرف مع السوق
وقبيل انعقاد المؤتمر بيوم واحد حملت وكالات الأنباء والصحف تصريحًا لافتًا صادر عن نائبة المدير العام لصندوق النقد الدولي أنطوانيت ساييه التي قالت بحسب صحيفة الشرق الأوسط عدد الجمعة ٢٥ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٠م العدد رقم ١٥٢٧٧، إن المجلس التنفيذي للصندوق أقر خطة لمراقبة برنامج اقتصادي يستمر (١٢) شهرًا أعده السودان مع سعيه لإظهار قدرته على تنفيذ إصلاحات، والمضي نحو الإعفاء من ديون في نهاية المطاف، وقالت إن السلطات السودانية سوف تواصل خفض الدعم الكبير للوقود، وسوف تفسح المجال للإنفاق الاجتماعي والصحي وكذلك توسيع القاعدة الضريبية، والعمل على إنشاء سعر صرف موحد تحدده السوق.
وقالت ساييه إن برنامج السودان يشمل إصلاحات تهدف إلى استقرار الاقتصاد وإزالة التشوهات وتحسين القدرة التنافسية وتعزيز الحوكمة.
تصريح نائبة المدير العام لصندوق النقد الدولي كان بمثابة إسدال الستار على أعمال المؤتمر قبل أن تبدأ، فهي ذكرت بالاتفاق بين الحكومة والصندوق، وهو يعني بوضوح أن الحكومة ماضية في إنفاذ سياستها، ومضت لإنفاذ اتفاقات مع الجهات الاقتصادية الدولية المعنية، مما يشكك في جدوى المؤتمر وتوصياته، والفائدة من انعقاده طالما كانت الحكومة قد حسمت وجهتها، وقد انتبه لهذه المسألة عدد من الكتاب والاقتصاديين، وتساءل عنها الدكتور الشفيع خضر -أحد عرابي الحكومة السابقين، والذي تولى منصب المستشار السياسي لرئيس الوزراء قبل أن يغادر موقعه- في مقال نشر بصحيفة التيار بعدد الثلاثاء ٢٩ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٠ الجاري بعنوان: "هل نأمل كثيرًا في المؤتمر الاقتصادي القومي؟".
عن جدوى انعقاد المؤتمر، ويقول الدكتور الشفيع خضر: "سبب آخر يؤكد شكوكنا المسبقة حول جدوى ما يجري الآن خلال الأيام الثلاثة التي يلتئم فيها المؤتمر الاقتصادي القومي، وهو ما أعلن قبل يومين من انطلاق أعمال المؤتمر من أن مجلس إدارة صندوق النقد الدولي قد أبدى موافقته على توصيات بعثة الصندوق التي رفعتها بعد مفاوضاتها مع الحكومة الانتقالية، والتي تسمح بتقديم الدعم للسودان مقابل التزامه بتحرير سعر الصرف، ورفع الدعم، وابتداع الدعم المباشر للأسر المحتاجة، وبالتالي، فإن النقاش المحتدم في المؤتمر ما بين موافق ومعترض على رفع الدعم، لا معنى له ولا طائل منه، فالحكومة قررت وانتهت وتفاهمت مع صندوق النقد الدولي، وشيء مؤسف جدًا، ومنتهى اللا مسؤولية، أن تُعالج قضايا سودان ما بعد الثورة بهذه الطريقة".
اقرأ/ي أيضًا: اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية: مطلوبات المرحلة ليست تخفيض أو تعويم الجنيه
ويمضي في مقاله للقول: "كما أشار أحد الأصدقاء المهتمين بقضايا البلد، وخاصة القضايا الاقتصادية، فإن الاتفاق الموقع بين مجلس الوزراء الانتقالي وبعثة صندوق النقد الدولي لم يُترك للمؤتمر الاقتصادي سوى نافذة صغيرة، لا للتقرير حول رفع الدعم من عدمه، ولكن لتخفيف وطأة الاتفاق ودرء آثاره على المواطن، كأن يتم، مثلًا، رفع الدعم بالتدريج وليس إلغائه بضربة واحدة، على أن يوجه قسط كبير من الدعم المباشر لصغار المنتجين، كهدف أساسي".
وبالنظر لمجمل مواقف القوى السياسية، نرصد فيها تبدلًا حيال الموقف من قضية رفع الدعم ما بين الأمس واليوم، فبعض القوى السياسية التي كانت في مقدمة المشاركين في هبة أيلول سبتمبر ٢٠١٣ الرافضة لرفع الدعم، صارت الأن في مقدمة المساندين لسياسة رفع الدعم وسياسات الإصلاح الاقتصادي عبر منظور صندوق النقد الدولي، وربما يأتي تبدل مواقف هذه القوى من قضية رفع الدعم وإصلاحات صندوق النقد تبعًا لتغير مواقعهما من السلطة، رفضًا حينما كانت معارضة، وتأييدًا بعد ما صارت جزءً من التحالف الحاكم، وراسمًا لسياسات الحكومة الانتقالية.
تواجه الحكومة صعوبات حقيقية في تجاوز الانهيار الاقتصادي، وتعثرًا في مواجهة التضخم والأزمات المعيشية
مر أكثر من عام منذ تسلم الحكومة الانتقالية لمقاليد السلطة في البلاد، غير أنها تواجه صعوبات حقيقية في تجاوز الانهيار الاقتصادي، وتعثرًا في مواجهة التضخم والأزمات المعيشية التي تعيشها المواطن، وبينما تغالب الحكومة هذه المصاعب فهي على ما يبدو لم تنجح حتى الآن في بسط سيطرتها على كافة الشركات الحكومة والمؤسسات الاقتصادية التابعة للقوات المسلحة والنظامية، وبينما تفاقمت الأزمات الداخلية بسبب شح الوقود والدقيق الذي قاد لأزمة في رغيف الخبز، وارتفاعًا غير مسبوق في أسعار العملات الأجنبية في مقابل الجنيه السوداني، مع ظروف كارثية بسبب وباء كرونا وآثار ما بعد كارثة السيول والأمطار والفيضانات، وهي حتى الأن لم تجد دعمًا من المجتمع الدولي وفق ما كان يتطلع مسئوليها من قادة الاقتصاد، الذين راهنوا على الدعم الدولي، وهو ما يطرح سؤالًا جوهريًا، هل عبرت الحكومة الجسر باتجاه توفيق أوضاعها وقبول وصفة صندوق النقد الدولي بعيدًا من التفاهم مع حاضنتها السياسية؟ الذين تركت لهم منفذًا لإطلاق الهواء الساخن عبر المؤتمر الاقتصادي، أم أنها كانت تسعى لتفاهم حول طريقة تنفيذ خطة رفع الدعم وبرنامج الإصلاح بشكل متدرج ومتفاهم عليه مع الحاضنة السياسية؟
إذ يبدو في حكم المؤكد أنها ماضية في تفاهماتها مع صندوق النقد الدولي سوأ وافقت الحاضنة أم رفضت أم اختلفت تقديرات قواها السياسية والمدنية.
ما يظهر بوضوح من تصريح نائبة مدير صندوق النقد الدولي هو أن الحكومة حسمت أمرها، غير أن العديد من المراقبين يرون أن هذه الطريقة التي تدار بها الأمور تفتقر للشجاعة في مواجهة المواقف، ويرون أن الحكومة إذا كانت غير مستعدة لتبني أي سياسة اقتصادية خلاف هذه، عليها أن تتحلى بالشجاعة، وأن تحدث الناس بوضوح عن آثار هذه السياسة، وكيف ستنعكس على حياتهم ووظائفهم ورواتبهم، وكيف ستصلح الأوضاع في خاتمة المطاف.
يحتاج إنفاذ سياسة التكيف الهيكلي لشجاعة في التعامل معها وفي إحاطة الشعب بتداعياتها
وعلى ما يبدو فإن الحكومة لا تود أن تكون شفافة في هذه القضية لسببين، الأول: هو أن هذه السياسة تحتاج لزمن طويل حتى يستطيع الاقتصاد تجاوز جراحها القاسية، وهي لا تحمل وعدًا في المدى المنظور بتحسين أحوال الاقتصاد، ومن ثم أوضاع غالب الشعب.
والثاني: أنها تتهرب من ذلك حتى لا يسألها الناس، عما فعلته في مجال استرداد كامل الولاية على المال العام، وإصلاح تشوهات الإنقاذ التي أحدثتها عبر هيمنة المؤسسات العسكرية والأمنية على مفاصل الاقتصاد، وهيمنتها على عدد من المؤسسات والهيئات الحكومية ذات الدخل العالي، فهي تريد أن تصور للناس أن سياسة التكيف الهيكلي التي تريد تنفيذها برعاية صندوق النقد الدولي هي الحل لكل مشاكل الاقتصاد، بينما الحقيقة الساطعة هي أن هذا الاقتصاد معطوب ذاتيًا، بسبب الهيمنة على المؤسسات والهيئات الاقتصادية الرابحة بواسطة المؤسسة العسكرية، وبسبب الاقتصاد الموازي الذي ينشط خارج سيطرة وإدارة الوزارة المختصة، وبسبب تسرب موارد البلاد عبر التهريب والتسريب وغيرها من وسائل استغلال النفوذ للخارج، دون أن يكون لوزارة المالية أي صلة بهذا النشاط، وبسبب استمرار وجود وتحكم عناصر النظام البائد على مفاصل الدولة دون أن تتخذ أي إجراءات في مواجهتهم، الهروب للأمام وعدم مواجهة المشاكل وحسمها لا يحل مشاكل البلاد بل يفاقمها.
اقرأ/ي أيضًا