19-يناير-2022

انهارت السينما السودانية نتيجة للتضييق والملاحقات (مواقع التواصل)

يتميز تاريخ السينما في السودان بعلاقتها المتوترة بالدولة دون المجتمع، ففي حين أن أول عرض سينمائي عالمي قام به الإخوة لوميير كان الغرض منه إبهار الجمهور بالتقنية الحديثة وسحرها وعجائبيتها؛ ليس غريبًا أن أحد أول رواد السينما جورج ميلييس كان ساحرًا -لاعب خفة- وهو أول من استخدم الخدع البصرية فيها، فالسينما كانت في الأساس اختراعًا ساحرًا وعجائبيًا. ونجد في المقابل أن أول العروض السينمائية في السودان كانت لا تتجاوز البروباغندا الاستعمارية، وحتى بعد الاستقلال لم يتغير الحال، فلم تتعد السينما أبدًا دورها كأداة سلطوية، تقوم في أفضل الأحوال ببث الأفلام التثقيفية في بعض القضايا الاجتماعية والصحية، وفي الأغلب ما تكون عن النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته دون أن تحمل أي معالجة سينمائية فنية متميزة.

الإنتاجات السودانية البسيطة والمتفرقة التي كانت تتم، كانت تتم بمجهودات فردية كتجربة فيلم "آمال وأحلام" أول فيلم سوداني روائي طويل

وبسبب علاقة التبعية هذه مع الدولة، انفصل سوق عرض الأفلام في السودان (السينمات ودور العرض والاستيراد التوزيع) عن الإنتاج، ففي عام 1970 وضمن حملة تأميم واسعة شملت عددًا كبيرًا من المؤسسات الاقتصادية في البلاد، تم تأميم دور السينما وشركات الاستيراد والتوزيع دون أن يشمل التأميم الإنتاج، إذ لم يكن هناك ما يمكن تأميمه أصلًا في مجال الإنتاج، فالإنتاجات البسيطة والمتفرقة التي كانت تتم كانت تتم بمجهودات فردية، كتجربة فيلم "آمال وأحلام" الذي أنتجه الرشيد مهدي كأول فيلم روائي طويل، وفي هذه الفترة الزمنية ذاتها بدأ السينمائيون الجدد يرفعون شعار إحلال الفكر محل الإثارة (أو بمعنى آخر محل التسلية)، لتصبح التسلية وظيفة دور العرض التي قامت بعرض أفلام أمريكية وعربية في الغالب، وأيضًا هندية في مراحل لاحقة.

ازدهرت السينما السودانية في السنوات القليلة الماضية وأنتج وأخرج سودانيون أفلام فازت بجوائز عالمية ومحلية
ازدهرت السينما السودانية في السنوات القليلة الماضية وأنتج وأخرج سودانيون أفلام فازت بجوائز عالمية ومحلية

اقرأ/ي أيضًا: "قوة الكلب".. غوص في تخليع الذكورة

يمكننا القول بمعنى آخر أن جمهور السينما في السودان لم تسنح له سوى فرص أن يكون مستهلكًا لسينما الآخرين، دون سينماه، فأصبحت مشاهدة الأفلام جزءًا من النظام الترفيهي لسكان المدن الكبيرة الخرطوم، عطبرة، الأبيض وغيرها، فعبارة "أين تسهر هذا المساء؟" هي عبارة سينمائية بامتياز في السودان، كما أن هذه التسلية المباحة والمتاحة لم تكن حكرًا على طبقة بعينها وإن كانت السينما نفسها مقسمة إلى فئات تذاكر مختلفة بطبيعة الحال، ولكل سينما جمهور مختلف وطبيعة عروض مختلفة، إلا أنها -أي السينما- كانت التسلية المفضلة للجميع وربما على الأخص للطبقات الأكثر فقرًا على اختلاف تفضيلاتهم للأفلام وأنواعها كما تذكر النكتة "الفيلم هندي ولا ناكل باسطة؟"، في إشارة إلى تفضيل الفيلم الهندي (فالأولوية للفلم الهندي ثم للمعدة)، فأسست السينما ليس فقط نظام ترفيه لقضاء أوقات الفراغ للأفراد، ولكن أيضًا ذاكرة مشتركة تميزت بالمفردات السينمائية سواء أفلام بعينها كالفيلم الهندي "من أجل أبنائي/أمنا الأرض"، أو أبطال كأميتاب باتشان الذي عرف حينها باسم "جاك طويلة"، أو حتى الطقوس المصاحبة لدخول السينما، ومرتاديها المعتادين.

أغلقت العديد من دور السينما في عهد النظام البائد
أغلقت العديد من دور السينما في عهد النظام البائد

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الست" يفوز بجائزة جديدة

لسبب ما لم تر الدولة في مؤسسة السينما سوى التهديد، فحاربت السينما اقتصاديًا (التأميم أولًا ثم التضييق الاقتصادي على أصحاب السينمات ومضاعفة جبايات السينما) وقانونيًا، ومجتمعيًا، حيث تمت تشويه سمعة السينما اجتماعيًا فبدلًا من أن تكون مكانًا آمنًا لتزجية وقت الفراغ أصبحت بحسب  منفذي القوانين "مشوهة للمنظر العام" ومكان لتجمع "الرعاع"، إلا لنجد الان أن الدار الوحيدة او الدارين اللتين تعملان بكفاءة لا بأس بها مصممة بحيث "لا تشوه المنظر العام" وبحيث "لا تصير مأوى للرعاع" فهي مصممة ضمن مول تجاري ضخم بفئة تذكرة وحيدة وثمن مرتفع، لنشهد لاحقًا رقابة مشددة ليس على الأفلام فقط ولكن على الجمهور الذي أصبح يشاهد الأفلام في صالات عرض مضاءة، وحتى من حيث كونها أداة سلطوية كما ذكرنا سابقًا فهي ليست ذات جدوى كبيرة مقارنة بالإذاعة أو التلفاز مثلًا فالتلفاز أداة تناسب أكثر طريقة تفكير السلطة، حيث يمكنك من الوصول إلى الجمهور حيث هم، بعكس السينما التي يذهب إليها الناس بإرادتهم ولا يشاهدون إلا ما يرغبون في مشاهدته حقًا، فجمهور السينما إذًا هو جمهور صانع للمادة الفنية المقدمة وإن بطريقة غير مباشرة.

المحاولات الجادة التي خاضها المخرجون والمنتجون السودانيون في الماضي للخروج بحلول إنتاجية وتوزيعية خرج منها عدد من أفلام التلفزيون

صعّبت هذه العداوة مع السينما احتمالية وجود مشروع سينمائي سوداني، فإذا نظرنا إلى مصر القريبة نجد أنه وفي وقت مبكر انتبه صناع الاقتصاد الرأسماليون مثل طلعت حرب إلى الجدوى الاقتصادية للسينما كمشروع اقتصادي ناجح، فأنتج فيلم "وداد" أول انتاجات ستوديو مصر، وبشكل عام لم ينقطع الإنتاج السينمائي المصري منذ بدايات السينما الصامتة بفيلم "برسوم يبحث عن وظيفة" وحتى يومنا هذا، وإن عانت أحيانًا من جودة الإنتاج كفترة السبعينات التي شهدت ما عرف بـ"أفلام المقاولات"، ومن الإنصاف أن نذكر المحاولات الجادة التي خاضها المخرجون والمنتجون حينها للخروج بحلول إنتاجية وتوزيعية خرج منها عدد من أفلام التلفزيون، التي لم يتوقف إنتاجها إلا في بداية التسعينات بعد موجة السينما الشبابية. بعكس واقع السودان الذي هو مجموعة من الانقطاعات المتواصلة التي لا تفصلها إلا بعض المحاولات والتجارب الجادة المتفرقة هنا وهناك، ولا يكتب لها الاستمرارية عادة كتجربة ستوديو جادالله جبارة على سبيل المثال، هذا جعل من السينما السودانية هي سينما مهرجانات أكثر منها سينما جمهور.

أدرج فيلم ستموت في العشرين على "نتفليكس" ومثل السودان في الأوسكار
أدرج فيلم ستموت في العشرين على "نتفليكس" ورشحته لجنة فنية سودانية رسمية للأوسكار

اقرأ/ي أيضًا: جاد الله جبارة.. ذكرى الكاميرا التي رسمت السودان

الآن ليس فقط في السودان ولكن في كل العالم، وبالرغم من احتفاظ  دور العرض ببريقها وجمهورها، إلا أن علاقة الجمهور بالسينما تغيرت تغيرًا دراميًا بلغ هذا التغيير ذروته إثر اختراع تقنية النظائر المتبادلة التي كانت في الأساس تقنية لتبادل ملفات الموسيقى حاربتها شركات الموسيقى الكبرى بسبب الخسائر المادية الطائلة التي تسببت بها هذه التقنية للشركات، لتتوسع تطبيقاتها وتشمل الأفلام والبرامج وشتى أنواع الملفات الرقمية، فأصبح الآن بإمكان شخص في قرية نائية بالسودان أو أي دولة أخرى أن يشاهد أحدث الأفلام فور نزولها للسينمات المحلية والعالمية مجانًا، مادام يمتلك خدمة إنترنت، برنامج لتبادل الملفات، وشخصًا في الجهة المقابلة للعالم يمتلك نسخة من الفيلم المعني. وإن كانت هذه التقنية مجانية وغير قانونية فإن شبكات ومواقع مثل "نتفليكس" و"شاهد" تتيح ذات التجربة بطرق قانونية وإن كانت أكثر كلفة.

التطور التقني في طرق ووسائل العرض أدى لتكُّون مجتمعات سينمائية جديدة في السودان

هذا التطور التقني في طرق ووسائل العرض أدى لتكُّون -إذا صح القول- مجتمعات سينمائية جديدة، فحتى وإن لم يشاهد الجمهور الفيلم معًا فيزيائيًا فإنه يتبادل الآراء والنقد حول الأفلام  سواء بتجمعات فيزيائية كجماعة الفلم السوداني بفروعها الثلاث في أم درمان والخرطوم وبحري، أو سودان فلم فاكتوري، أو نادي سينما صناع الحياة وغيرها من التجمعات -أو إسفيريا مثل مجموعات مواقع التواصل مثل (smss) (skIns cinema) وغيرها. هذا التطور التقني في أساليب العرض سبقه تطور تقني آخر في أساليب الإنتاج، هذه التطورات التقنية بالإضافة إلى غيرها من الأسباب: كتوقنا كسودانين لرؤية وإثبات أنفسنا فنيًا وسينمائيًا على وجه التحديد، والتفات جهات عديدة لقضية السينما مؤخرًا -كل هذا فتح مجالًا جديدًا للحديث عن سينما سودانية من جديد.

 

قبل أن تغادر.. إليك أبرز القصص على "الترا سودان" فيما يتعلق بالسينما في السودان:

الفيل الأسود.. أوان الحنين للسينما السودانية

"ستموت في العشرين".. الدخول للحياة من باب الموت

الثقافة والإعلام تُقر بوجود تمكين للإسلاميين عطل المسرح والسينما