30-مايو-2020

حميدتي (Getty)

يحتل الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي" قائد قوات الدعم السريع منصب الرجل الثاني في المجلس السيادي ضمن هيكل الحكومة الانتقالية، وهو موقعٌ مرموق كان جزءً من اتفاق ووثيقة دستورية، فتحت الباب لها معادلات الثورة السودانية، وتوازنات التفاوض المرتبك وتوازنات القوى بين عنفوان الثورة السلمية، وقوة الجهات المحتكرة للسلاح على مستوى الدولة. وقد لعب موقفه الشخصي وقواته دورًا هامًا في أدق لحظات الثورة حسمًا، حينما قرر عدم التدخل لمصلحة نظام البشير في مواجهة الثوار السلميين، ونأى بقواته عن حمامات الدم التي كان يخطط لها البشير، مما أسهم في إضعاف قدرات النظام وعجّل بسقوطه، فاتحًا الباب لتمدد الثورة ووصول الأجهزة الأمنية والشرطية لمرحلة الإنهاك والانهيار الكامل، حينما زحفت الملايين صوب القيادة العامة في صبيحة السادس من نيسان/أبريل 2019.

ما ورد بالحوار التلفزيوني من معلومات حول القوات التي حاولت التوجه لفض الاعتصام يجب أن تملك للجهات العدلية

بعد ذلك التاريخ وخلال تلك الأيام، جرت وقائعٌ عديدة منها محاولات أولية لفض الاعتصام، بواسطة قوات عسكرية تصدت لها مجموعة من عناصر القوات المسلحة وفق ما هو معلوم وأخمدتها، وبعد أن كان الفريق أول حميدتي يحظى بشعبية كبيرة في أوساط الميدان ووسط الثوار لموقفه، وقعت أحداث قلبت هذه المعادلة رأسًا على عقب، حيث تكررت حوادث الاعتداء على المتظاهرين في أخريات أيام الاعتصام، قبل أن تقع مجزرة فض الإعتصام، وما سبقها وتلاها من أنشطة قام بها هو شخصيًا وأحاديث ظل يطلقها في تلك الأيام، بدا أنها في إطار المحاولة الانقلابية التي كانت مجزرة الاعتصام واحدةٌ من أدواتها، وترسخ لدى الجميع أن قواته ضالعةٌ فيها ضمن كامل المنظومة العسكرية والأمنية، وكانت الشواهد لا تعد ولا تحصى، منها التواجد الكثيف لقواته عند فض الإعتصام وشهادات الشهود والتسجيلات، وقد كرر أكثر من مرة عقب تلك الأحداث الدامية أن هناك مؤامرة كبيرة قد حدثت داخل قواته، وأن هناك من نصب لها هذا الفخ.

وفي حواره مع قناة سودانية (24) جدد حميدتي إشاراته في هذا الصدد، ممسكًا عن كشف تفاصيل معلوماته حول ما حدث، مشيرًا إلى أنه سيتحدث في الوقت المناسب وبالأدلة، بعد أن تقول لجنة التحقيق التي يرأسها القانوني نبيل أديب كلمتها.

اقرأ/ي أيضًا: من سيغسل أيادي العسكر من دماء شهداء مجزرة القيادة؟

الإفادات التي ظل الفريق أول حميدتي يطلقها منذ وقتٍ طويلٍ تنطوي على قدرٍ عالٍ من الخطورة، فهي تشير لجهات محددة معلوم أنها قد تقدم على أي فعل يحول بينها وبين كشف حقائق أدوارها وجرائمها، وكان المتوقع أنه طالما كانت هذه القضايا التي يتناولها مثل أحداث الهجوم على ميدان الاعتصام منذ السادس من نيسان/أبريل وحتى الـ11 منه والتي سقط عدد من الشهداء نتيجتها قيد التحقيق بواسطة النائب العام، أن يكون هو على رأس من يتم أخذ افادتهم من أعضاء اللجنة الأمنية وقتها، كما أن شهادتهم تعتبر أساسية بطبيعة الحال في قضية فض الاعتصام، والأصح أن يتم التحقيق معهم جميعًا، ويشمل ذلك كل أعضاء اللجنة الأمنية الظاهر منهم والمستتر، باعتبارهم من يملكون القرار والسلطة الأعلى على كل القوات العسكرية والأمنية والشرطية بالدولة.

في لقاء سودانية (24) أشار حميدتي إلى أن قواته أوقفت في منطقة جبرة جنوب الخرطوم يوم 11 نيسان/أبريل 13 دبابة مجهزة عسكريًا و"مذخرة"، تحركت من "سلاح المدرعات"، وكانت في طريقها لفض الاعتصام، مشيرًا إلى أن المجموعة التي كانت تقودها من خارج المنظومة العسكرية، وقال إنهم يعلمون قائدها وطبيعتها، ورافضًا في الوقت ذاته تحديد هويتها ردًا على سؤال محاوره ما إذا كانت تتبع للدفاع الشعبي، ومن المعلوم بالضرورة مع طبيعة الدولة الموازية التي صنعها الرئيس المخلوع عمر البشير وحزبه المحلول عبر المليشيات الحزبية، أن هناك جهات محددة يمكن لأفرادها القيام بهذا النوع من المهمات، ولديها خطوط تتقاطع وصلاتٍ مع المؤسسات العسكرية والأمنية، وبعض قادتها هم جزء من قيادة هذه المؤسسات، وهي عناصر الدفاع الشعبي، ومجموعات الأمن الشعبي، بخلاف الأجهزة الأمنية، وهي إفادة تستلزم استدعاء الفريق أول حميدتي للشهادة والإدلاء بما يعرفه من فوره للسلطات العدلية، وإجلاء الحقائق حول هذه القوات ومن كان وراء هذه العملية، فهي ستقدم أدلة مهمة حول كل ما يقع من هجمات منذ السادس من نيسان/أبريل، وذلك في إطار التحقيقات التي يجريها النائب العام حول هذه القضية.

قضية التلاعب الذي تم بحسب حميدتي حول مزاعم القبض على شقيق المخلوع البشير وهروبه يجب أن يشملها التحقيق الجنائي

في سؤاله حول تفاصيل فض الاعتصام أمسك الرجل عن الإدلاء بإفادات واضحة رغم إشارته مجددًا للمؤامرة، وتصويبه الأنظار للجهات التي حاولت ذلك عدة مرات، غير أنه أشار لواقعة محددة لها صلةٌ بما جرى، وتتعلق بالتضليل الذي مورس حول اعتقال أشقاء البشير "عبدالله والعباس"، بينما كان العباس طليقًا، وسهلت جهاتٌ ما هروبه من البلاد، مشيرًا إلى أن تلك الحادثة ضربت مصداقية المجلس العسكري في وقتٍ مبكر، والإشارات التي وردت في حديثه تشير لصلةٍ ما لهذه الواقعة بما جرى من عمليات هجوم على الاعتصام، رابطًا الواقعة وتفاصيلها بالمؤامرات التي تحاك. وقال إن بعض ممن قاموا بتهريب العباس قد تم اعتقالهم، بينما يتمتع عددٌ منهم بالحرية الكاملة، وطالب بمحاسبة المسؤول الذي أذاع ذلك الخبر، محملًا إياه المسؤولية، وقال إن مكانه السجن. ويتذكر الجميع من أعلن ذلك، وللتذكير نورد هنا تلك الإفادة ومصدرها وما صحبها من ملابساتٍ أجبرت المجلس العسكري ومسؤوليه لإعلان خبر عدم القبض على العباس وهروبه. وفيما يلي ننشر تلك الوقائع، فبتاريخ 17 نيسان/أبريل 2019، وعبر مؤتمرٍ صحفيٍ تم إعلان اعتقال اثنين من أشقاء البشير وتقول تفاصيل الخبر:

"أعلن المجلس العسكري الانتقالي بالسودان اليوم (الأربعاء) اعتقال اثنين من أشقاء الرئيس السوداني المعزول عمر البشير. وقال المتحدث الرسمي باسم المجلس الفريق ركن شمس الدين كباشي، في مؤتمرٍ صحفيٍ بالخرطوم اليوم إنه تم اعتقال اثنين من أشقاء رأس النظام السابق، هما عبدالله والعباس، وجاري البحث عن البقية الذين يخفون أنفسهم."

اقرأ/ي أيضًا: مغفلو الأبارتايد المفيدون.. أو الكلبية اللاأخلاقية

وقد تفجرت الأحداث لاحقًا، حينما نشر موقع (باج نيوز) خبرًا مفاده أن عبدالله البشير هو الوحيد المعتقل من ضمن أشقاء المخلوع عمر البشير، وأن إدارة السجن منحت إذنًا للعباس للخروج، غادر بعده لخارج البلاد إلى تركيا. وفي ذات اليوم وكرد فعلٍ للخبر الذي أثار ضجةً كبيرة، نقلت قناة العربية تصريحًا خاصًا لمدير سجون السودان فجر من خلاله مفاجأة كبيرة، حيث قال إن العباس لم يهرب من سجن كوبر، لأنه لم يكن بالسجن من الأساس، وهذا هو ما ورد بالخبر:

"نفى مدير عام السجون في السودان، الأحد، إطلاق سراح العباس البشير شقيق الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، لأنه لم يكن موقوفًا أصلًا لديهم. وقال لقناة "العربية" "لم نُطلق سراح العباس شقيق الرئيس المخلوع لأنه لم يأتِ إلينا أصلاً". جاء ذلك بعدما تداولت أنباء عن منح إدارة السجن في الخرطوم إذنًا للعباس البشير، شقيق الرئيس السوداني المعزول عمر البشير بمغادرة المعتقل الذي تواجد فيه لقرابة أسبوعين، حيث سافر بعدها إلى تركيا."

وبعد أن تكشفت الخيوط وأثارت حنق وغضب الرأي العام وقتها، خرج الناطق الرسمي للمجلس العسكري الفريق شمس الدين كباشي مجددًا بتاريخ 14 أيار/مايو 2019 مصرحًا عبر مؤتمرٍ صحفي:

"قال المجلس العسكري الانتقالي في السودان، الثلاثاء، إنه يعتقل واحدًا فقط من أشقاء الرئيس السابق عمر البشير الخمسة، وليس اثنين، كما كان قد أعلن سابقًا، مشيرًا إلى أن الشقيق الثاني نجح في الفرار إلى تركيا. وقال المتحدث باسم المجلس العسكري، الفريق الركن شمس الدين كباشي، للصحفيين "كنا أعلنا في 17 نيسان/أبريل اعتقال شقيقي الرئيس، عبد الله والعبّاس، لكن المعلومة لم تكن دقيقة: ذاك اليوم تمّ القبض على عبد الله فقط." وأضاف "في اليوم التالي ظهر العبّاس في منطقة حدودية لدولة مجاورة"، مشيرًا إلى أن السلطات السودانية طلبت من هذه الدولة، التي لم يسمّها، تسليمها شقيق البشير لكنها رفضت ذلك، وتابع بعد ذلك جاءت الأخبار أنه في تركيا".

الإفادات التي وردت في حوار الفريق أول محمد حمدان دقلو هي إفاداتٌ خطيرةٌ في مختلف الاتجاهات، وهي تسلط الضوء على مرحلةٍ هامةٍ في مسيرة الثورة، وحجم التضليل والخداع الذي مورس وقتها، وقاد لخلق بلبلة متصلةٍ بسبب إحساسٍ عامٍ بأن المجلس العسكري يلعب دورًا في حماية رموز النظام البائد، بل كشفت تقارير لاحقة عن تورط قادةٍ ومسئولين أمنيين في تسهيل هروب عددٍ من رموز العهد البائد خارج البلاد، وهي قضية لا بد من كشف كامل تفاصيلها بالنظر للمهددات التي يشكلها بعضهم حاليًا.

خطورة إفادات قائد الدعم السريع أنها تؤكد ما ظل يردده الشارع السوداني طويلًا حول تواطؤ عناصر من العسكريين مع النظام البائد

 

بينت إفادات قائد الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، بوضوح أن هناك عناصرٌ تتبع للنظام البائد كانت ولا زالت داخل مواقع أجهزة الحكومة الانتقالية، وسعت لحمايته وتعمل على تعويق أي عمل يتم في اتجاه حسم بقاياه، وهي إفادات لا ينفع التعامل معها بغير تدابير قانونية، لا سيما وأن الأحاديث تأتي من عنصرٍ يحتل مكانه في رأس هياكل الحكم، وشهادته كذلك تأخذ أهميتها من مواقعه النافذة بدوائر صنع القرار والمؤسسات العسكرية والأمنية بالدولة، قبل وبعد سقوط نظام البشير، كما أنها كشفت عن إشكالاتٍ أكبر، وعن أدوارٍ تخريبيةٍ يقوم بها البعض تتجاوز الاستهداف العسكري بمراحل، وتتقاطع مع العلاقات الدبلوماسية وتمتد للتخريب الاقتصادي.

لسنا في موقع التصديق ولا التكذيب، بل المطالبة بالتحقيق الذي يكشف الحقائق، وما يدور على مستوى مهم من مؤسسات السلطة، ومن يقومون بخدمة النظام البائد في دوائرها العليا، لا سيما وان كل هذه المعلومات التي نثرها هي جزء من تحقيقات تقوم بها النيابة العامة ولجان التحقيق.