26-مايو-2020

الصادق المهدي (Getty)

طرح حزب الأمة القومي على تحالف الحرية والتغيير وثيقة العقد الاجتماعي، مطالبًا التحالف باتخاذ موقفٍ واضحٍ منها، وتبنى موقف تجميد نشاطه حال لم يتلق الرد المطلوب حولها خلال أسبوعين من تسليمها، وهو ما نفذه الحزب فعليا. وهو موقف سياسي تناوله بالتحليل عدد من الكتاب، يخالف جوهر العمل التحالفي القائم على توافقات الحدود الدنيا، وطريقة طرح القضايا للتداول حولها وتبني ما يتوافق عليه الجميع من أفكارٍ وأراء، وإن كنا نتفق مع حزب الأمة في كون التحالف يحتاج لرؤيةٍ وبرنامج سياسي يخاطب قضايا المرحلة الانتقالية، إلا أن الطريقة التي تبناها، وما تردد عن اتجاه الحزب لاجتراح طريقٍ جديدٍ بتحالفٍ للقوى المجمعة على وثيقة العقد الاجتماعي، يبقى موقفًا سيفتح الساحة على موقفٍ سياسي معقد، يهدد بتقويض الوضع الدستوري القائم، باعتبار أن تحالف الحرية والتغيير بصيغته الراهنة هو الجهة الضامنة والشريكة في تنفيذه، وأي تغييبٍ لها سيقود لأسئلة قانونية حول مدى مشروعية ما تم توقيعه من اتفاقات ووثيقة دستورية، وما تأسس عليها من هياكل الحكم.

توصيف الوثيقة لدور المكون العسكري يحتاج لتدقيق، ما حدث كان سباقًا للسلطة وليس انحيازًا للثورة، وهذا ما قاد لفض الاعتصام.

وبعيدًا عن كل ذلك، وفي معرض النظر لوثيقة العقد الاجتماعي، وتفكيك ما حوته، فإننا سنناقش ما ورد فيها من أفكارٍ وتصورات، ولنبدأ بما حوته من ديباجة للقراءة السياسية، وما ورد فيها من إشارات لدور القوى العسكرية في الانحياز للثورة. حيث تحتاج هذه الجزئية لمناقشة واسترجاع لتفاصيل ما جرى، صحيحٌ أن اللجنة الأمنية عزلت الطاغية وانقلبت على قسم من عضويتها واحتكرت القوى العسكرية المنظمة في مواجهتها، لكن هل صحيحٌ أنها انحازت للثورة؟ أم أنها عمدت لقطع الطريق عليها والالتفاف على شعاراتها؟

إجابة هذا السؤال مهمة لأنها تساعد على بناء موقفٍ سياسيٍ سليم ومؤسس على الحقائق؛ هذه اللجنة عملت في تلك الأيام على توفير الحماية لكوادر الحزب البائد وغضت الطرف عنهم، حتى تمكنت أعداد منهم من الهروب من السودان، كما قامت مجموعات منهم بتحويل الأملاك والأموال، وقد بدت مضطربة في مواقفها، فتارةً تحل المؤسسات العسكرية والمليشيات التابعة للنظام، وتارةً تعيدها مع حساباتها المصرفية، وتارةً تخطط للانقلاب، وتبحث عن حواضن له من عمد ونظار الإدارة الأهلية وسواقط النظام البائد، وتهيئ الساحة له بانقلابٍ كاملٍ مثلته مجزرة القيادة، ومن بعد تشكيل الحكومة الانتقالية واصلت في مواقفها لحماية عناصر النظام البائد، ومعاكسة الإجراءات في مواجهتهم والوقوف في مواجهة سن القوانين".

اقرأ/ي أيضًا: حروب الصيف العبثية..جونقلي الكبرى

الأمر الثاني فيما يتعلق بموقف حزب الأمة من طريقة تشكيل الحكومة وما ذكرته ديباجة العقد الاجتماعي واختياره للكفاءات، فينبغي التذكير بأن هذه المعلومة ليست دقيقة، إذ شاب موقف الحزب التناقض والتخبط، شأنه شأن غالب قوى الحرية والتغيير، فاختار أن يشارك في الحكومة هو والقوى السياسية في بداية الأمر، وعادوا وأعلنوا رفضهم للمشاركة، ولما تم تشكيل الحكومة حاز الحزب بطريقة ملتوية على منصبين في التشكيل الوزاري، واحدٌ منهما منصب وزير المالية والآخر وزير الشؤون الدينية والأوقاف، وفي هذه الحالة لا يجدي التعلل بأن هذه الكوادر شاركت بصفة فردية خروجًا على قرار المؤسسة، فهو بهذا شريكٌ في هذه الحكومة، ومسئولٌ مثل كل القوى التي قامت بتسمية وزرائها، أو تلك التي ارتضت بهذه الحكومة على قدم المساواة، وهم مع غيرهم أحق بالمساءلة على أي فشلٍ يعتري أداء الحكومة، وقبل ان يلقوا بها في قارعة الطريق فهم شركاء في كل مراحل الاختيار، والمطلوب منهم توضيح المعايير التي استندوا عليها سواء في تسمية الوزراء أو وزرائهم المشاركين، وبالتالي تقع عليهم مسئولية اخلاقية تجاه الشعب في هذا المجال.

ثم تعرج وثيقة العقد الاجتماعي، لتشريح أوضاع التحالف الحاكم ممثلًا في قوى الحرية والتغيير، وتحدد ملاحظاتٍ مهمة في تحليلها لأوضاعه، لا نختلف مع مجملها ولكن نختلف في أسبابها ودور حزب الأمة فيها وفي معالجتها، ونجملها في ما ذكرته الوثيقة:

  • تفكك الشرط القيادي السياسي للثورة بسبب المواقف الحزبية، والتفاوض من قبل بعض الأجسام دون موافقة التحالف، او كتلة نداء السودان التي ينتمي إليها المفاوضون.
  • انصراف بعض القوى للمزايدات.
  • الانقسام حول الملف الإقتصادي.
  • خلل عملية السلام بين المطالب التعجيزية للحركات واختلافات شركاء الحكم على طريقة إدارتها مما أدى لتدمير الوثيقة الدستورية. (انتهى).

وبطبيعة الحال ولفائدة تأسيس موقفٍ سياسي جديد، لا يمكن لحزب الأمة أن يعفي نفسه من مسئولية ما حدث، فهو لم يكن في خانة المراقب، بل كان شريكًا في كل ما يجري، وما رماه على الآخرين كان هو جزءً منه، يوم أن لزم الصمت حينما شرع قادة المجلس العسكري للجنة الأمنية وقتها في مقابلة قادة الحركات المسلحة بشكلٍ منفردٍ، ويوم أن قبل مشاركة بعضهم وممثليهم ضمن الفريق التفاوضي للحرية والتغيير مع المجلس العسكري، وذهب الحزب ليفاوضهم من جديد مورطًا -هو وقوى نداء السودان- البلاد في كارثة عدم تعيين الولاة، وإرجاء المجلس التشريعي رغم أنه كان ممكنًا إذا تمتع الفريقين بالخبرة والمعرفة بطبيعة الدولة، وبالإرادة الثورية لتصفية دولة العهد البائد لما صارت هذه قضية، فكان بالإمكان تعيين الولاة ثم مراجعة كامل الوضع بعد السلام.

حزب الأمة نافد الصبر على مصاعب العمل الجماعي، ويعتبر أن رؤيته وحده أساس البقاء أو المغادرة

وقد سعى حزب الأمة مع غيره من أطراف نداء السودان لتكريس صناعة كتلة سياسية تتمتع بأغرب وضعية في العمل التحالفي، حيث صارت الجبهة الثورية ممثلة ككتلة داخل تحالف الحرية والتغيير، بينما احتفظت بمكانها ومقعدها داخل نداء السودان، وكان واضحًا أن واحدة من أغراض ذلك الوضع الشاذ، هو الهيمنة على التحالف والتمتع بالأغلبية المريحة لتمرير القرارات السياسية.

لذلك تبدو إشارة الحزب لعدم توازن المجلس المركزي للحرية والتغيير، وملاحظات الحزب على طبيعة الأجسام العضوة والتحيزات الحزبية والشخصية، إشارة له فيها نصيبه، بعد وقائع قصة الجبهة الثورية التي استعرضناها.

هذه الوضعية تحتاج لمراجعة برمتها، وفحص جدوى تأسيس التحالف على الكتل والتحالفات السياسية (نداء السودان، قوى الإجماع، جبهة ثورية... الخ)، هل هذه هي الصيغة الأفضل، أم يجب أن تتم إعادة تأسيسٍ على أساس القوى الحزبية والمنظمات والحركات المسلحة على أساسٍ فردي، كما كان الحال في التجمع الوطني الديمقراطي، على سبيل المثال، بما يحرر الجميع من التكتل.

تشير الوثيقة بوضوحٍ إلى أن من قام بصياغتها ينطلق من موقف حاسم ونهائي ليس من الحرية والتغيير فحسب، بل حتى من تحالف نداء السودان الذي يعمل في إطاره حزبه، وهو ما يشير بوضوح الى أن حزب الأمة قد عقد عزمه على طريق مغاير للتحالفات القائمة، وهي سمة ملازمة لهم كحزب، فهو نافذ الصبر على مصاعب العمل الجماعي، ويعتبر أن رؤيته وحده أساس البقاء أو المغادرة، فأنظر كيف تمهد الوثيقة بعد استعراضها للخلل على المستوى العام الذي لم يشر الحزب لنصيبه فيه كضرورة لازمة من لوازم وسنن النقد والنقد الذاتي ومن لوازم بناء المواقف، تقول الوثيقة:

"لا نداء السودان قابل للاستمرار بشكله المتفق عليه، ومن باب أولى عدم الجدوى يسِمُ الحرية والتغيير فما العمل؟

الاستمرار في الشكل المختل لا يجدي بل يمثل تنصلًا عن المسؤولية الوطنية، المطلوب بإلحاح العمل من أجل تكوين اصطفاف تشترك فيه القوى السياسية والمدنية الجادة، وتشترك فيه لجان المقاومة المستعدة لدورٍ بناء بعنوان مؤتمر القوى الجديدة" (انتهى).

اقرأ/ي أيضًا: متى كان "الصادق المهدي" مع الثورة؟

من أين يريد أن يأتي حزب الأمة بقوى سياسية ومدنية جادة، وغالبيتها جزء من تحالف الحرية والتغيير الذي لديه تحفظات على فصائله؟ من أين يريد أن يأتي حزب الأمة بهذه القوى السياسية والمدنية الجادة، وغالبيتها جزء من تحالف الحرية والتغيير، وهي مسئولة عن كل الأخطاء والخطايا السياسية التي ذهبت إليها الوثيقة؟ وهل الجدية مرتبطة بالموقع من التحالفات ام بالممارسة؟ ولماذا لا يطرح حزب الأمة رؤيته للحوار حولها ويخوض معركته بالصبر المطلوب لمصلحة اصلاح التحالف الذي ينتمي إليه، عوضًا عن اجتراح طريقٍ ثانٍ، رغم علمه بخلل هذه العملية وتأثيراتها على الوضع الدستوري القائم، والمؤسس على وجود تحالف الحرية والتغيير؟

ويضع الحزب عبر الوثيقة تصوراته لمكونات التحالف، فهو يضع طريقين أمام تجمع المهنيين بعد ما يجري تحليله على ذات ما تردده دوائر عديدة حول أنه "يعاني من محاولات اختراق من قوى قليلة الشعبية"، وهو خطابٌ ظلت تردده جهات عدة، منها جهاز أمن النظام البائد طيلة فترة الثورة، ودوائر من ربائب العهد البائد بعد سقوط النظام، وتضع الوثيقة التجمع أمام خيارين:

  • إما التحول لحزب سياسي.
  • أو التحول لتنظيم جامع للنقابات.

ولا تغادر الوثيقة بالطبع في سياق رؤيتها لمكونات تحالف الحرية والتغيير، وتحليلها لأدوارها الحالية والمستقبلية المطلوبة دون الإشارة لمنظمات المجتمع المدني، فيشير لدورها الرقابي والتوعوي وتطوير المجتمع وفق المتعارف عليه علميًا، كإشارة لأهمية تقيدها بدورها دون الخوض السياسي، أو إذا ارادت ذلك فعليها أن تتحول لحزبٍ أو أحزابٍ سياسيةٍ هي كذلك.

يتجاوز الحزب دوره ليقرر للأخرين ما ينبغي أن يقرروا فيه بأنفسهم، وهي وإن أحسنا الظن بكونها محض نصائحٍ سياسية لحلفاء، إلا أنها في حقيقة الأمر تصدر عن منصة وصاية سياسية

وفي هذه الرؤية يتجاوز الحزب دوره ليقرر للأخرين ما ينبغي أن يقرروا فيه بأنفسهم، وهي وإن أحسنا الظن بكونها محض نصائحٍ سياسية لحلفاء، إلا أنها في حقيقة الأمر تصدر عن منصة وصاية سياسية لا تعطي هذه الأجسام التي تشترك في منظومة التحالف، الذي يجمعها بحزب الأمة وفق قواعد الندية واستقلالية المواقف، حقها من التقدير والاحترام اللازم، وهو ما يخالف مقتضيات اللياقة السياسية المطلوبة في التعامل مع الحلفاء، إذ من غير المعقول مثلًا أن يطالب أحدٌ حزب الأمة بأن يتخلى عن مواقفه السياسية، أو يتحول لجمعية على سبيل المثال.

هذا فيما كان من التصدير السياسي لوثيقة العقد الاجتماعي، أما فيما يتعلق برؤيته للبرنامج الذي ينبغي أن ينبني عليه التحالف المنشود، سواء كان تحالف الحرية والتغيير او القوى التي تتبناه، فهو موضع نقاش منفصل في حلقةٍ ثانية من هذا المقال.

اقرأ/ي أيضًا

زيارة دقلو للقاهرة.. مخابرات السيسي تحاول قلب المعادلة

ولاء البوشي ليست الأولى.. كورونا ومسؤولي الحكومة الانتقالية