إن الأزمات الاقتصادية الطاحنة والحروب الأهلية التي مرت بها الدولة السودانية منذ تاريخ ميلادها وتحديدًا في فترة النظام السابق، قد زادت من شريحة الفقراء والنزوح إلى العاصمة الخرطوم، هربًا من الموت والحياة السيئة في معسكرات النازحين، واستقرت هذه الشرائح الفقيرة والنازحة في هامش الخرطوم، في أحياء مقفلة تشبه إلى حد بعيد أحياء الزنوج في أمريكا، التي تتسم بمظاهر الجريمة وتجارة المخدرات.
الفقر يقيد الأفراد ويمنع الذوات من التحرك داخل مساحات الحرية الممكنة، وبالتالي فإن المقاومة ضد الفقر هي مقاومة ضد نموذج حياة رديء وبائس
كانت هذه الأحياء أول أمرها في وسط العاصمة، ولكن النزوح المستمر وتزايد أعداد المرتحلين من الريف والتوسع الأفقي للعاصمة الخرطوم، وازدياد أسعار الأراضي والسمسرة فيها من قبل الرأسماليين بتحالفهم مع أجهزة الدولة هو ما جعل هذه الأحياء تنزح كل مرة إلى هامش العاصمة، أو عن طريق الإزالة القسرية التي انتهجتها الدولة ضد ما سمته بالعشوائيات.
اقرأ/ي أكثر: السودانيون وعبء الحرية الثقيل
إن تزايد رقعة الحرب في غرب السودان وجنوبه هو ما جعل أغلب سكان هذه المناطق من إثنيات زنجية مع وجود ضئيل لإثنيات عربية، وأغلب السكان الذكور في هذه العشوائيات هم من العاملين بالأجرة اليومية من بنائين أو حمالين "عتالة" بالأسواق وغيرها من المهن الهامشية، وتعمل نساؤهم كشغيلة بالمنازل أو بائعات للخمور البلدية أو بائعات للقهوة؛ ولكن مع تزايد الأزمات الاقتصادية، امتهن كثير من شباب هذه العشوائيات، لزيادة الدخل، تجارة المخدرات بشتى أنواعها، أو وجودهم في تجميعات كعصابات "النيقرز". ظلت هذه المناطق طوال تاريخها تقاوم توحش الدولة وحلفائها من الرأسمالية.
كان الإغلاق ثيمة أساسية لهذه المناطق، فلا يمكن لغريب دخولها دون صحبة أحد سكانها، فالشوارع متشابكة فيما بينها، والمنازل متشابهة وقائمة بطريقة عشوائية، بعضها من الطين وأخرى من الحصير وقليل منها مبني من الطوب الأحمر، وما يجمع سكان هذه المناطق هو حالة الفقر المركب، هو مركب لأن أغلب سكانها فقراء ومن إثنيات بعينها، والفقر فيها ليس حالة عارضة يمكن الخروج منها، بل هو نموذج الحياة الوحيد والممكن.
يمكننا تعريف الفقر بوصفه حرمانًا من القدرة على العيش وفق رغباتنا. إن الفقر سلطة على الحياة بأكملها، إذ تؤدي النقود ومستويات الدخل الدور الأساسي في اختيار نموذج العيش المناسب؛ وبالتالي فالفقر هو نموذج للحياة بائس وغير فاعل في تحقق الذات. الفقر يقيد الأفراد ويمنع الذوات من التحرك داخل مساحات الحرية الممكنة، وبالتالي فإن المقاومة ضد الفقر هي مقاومة ضد نموذج حياة رديء وبائس.
ما أنتج هذه الذاتيات هي اندلاع الحروب في مناطق متفرقة ودمارها بالكامل، بالإضافة إلى سياسات تحرير السوق والخصخصة التي انتهجها النظام السابق، خاصة خصخصة القطاعين الصحي والتعليمي. هذه المناطق (سمِّها إجرائيًا العشوائيات)، كانت المتنفس لأهل المدينة الذين حرمتهم قوانين سبتمبر 1983م من المتع البسيطة كالخمر. ولهذه المناطق أساليب عيش مختلفة تمامًا عن بقية المناطق، إذ أن التقييد القانوني الذي يضرب أغلب المدينة لا وجود له هناك، وبالتالي هنالك متنفس قليل للحرية.
اقرأ/ي أيضًا: النخبة السودانية وإدمان التفكير التصنيفي
شاركت هذه الذوات في أغلب التظاهرات، وخرجت أحياء قريبة من بنيتها الاقتصادية المفقَرة، ولكن لم تكن مواكبهم منتشرة ومشهورة في وسائط التواصل الاجتماعي كباقي مناطق الطبقة الوسطى والبرجوازية. خرجت أحياء مثل مايو والسلمة وعد حسين والحاج يوسف وأمبدة، وتم قتل أعداد من المتظاهرين فيها، وكان وجود هذه الذوات بالقرب من ساحة الاعتصام بالاتجاه الشمالي من شارع النيل، وسُمِّيت تلك المنطقة باسم كولومبيا.
لا يمكن فهم الخارطة الجغرافية للاعتصام بعيدًا عن خارطة الدولة السودانية وتحديدًا مدينة الخرطوم منذ ميلادها وإلى الآن، يبدو أن خارطة المدينة بعنفها الطبقي والاثني الفظيع قد ظللت خيال الثورة أيضًا وبعثت نفسها من جديد، فوجود أبناء العشوائيات والعشش بنموذج حياتهم ما قبل الثورة لم يتغير؛ فوجود كولومبيا في الثورة بالخارج من الاعتصام هو امتداد لوجودهم خارج المدينة وأفقها، مع وجود أبناء المدينة من الطبقة الوسطى والبرجوازية بالداخل.
كولومبيا رمزية ثورية اتخذتها هذه المنطقة. إذ لطالما ارتبط النضال التحرري في دول أمريكا اللاتينية بتجارة المخدرات وعلاقاتها مع عصابات التهريب كمصدر دخل أساسي لتوفير السلاح؛ كانت كولومبيا سوقًا مفتوحًا لبيع وشراء البنقو والخمر والحبوب المخدرة، ولكن ما أن استمرت لأسابيع حتى صارت كولومبيا "بالنسبة للنسقيين والطبقات الوسطى والبرجوازية" مصدرًا لمشكلات، فلقد حدثت مشاجرات متفرقة ولأسباب متباينة، وهو أمر عادي لطبيعة المنطقة التي يوجد بها أعداد ضخمة من الناس، إضافة إلى وجود الخمر والمخدرات.
كانت كولومبيا أيضًا المصدر الأساسي لتخريط جغرافيا الاعتصام في شكل تجميعات، فقد تواجدت الذوات المعولمة "أبناء وبنات الطبقة الوسطى التي أُفقرت وفُككت" في العمادة وشارع الكلينك بالقرب منها، كمُستهلكٍ أساسي لمنتجات كولومبيا، بينما ظلت المناطق المتاخمة لبري بالاتجاه الشرقي وشارع البلدية بالاتجاه الجنوبي الغربي تجمع بقية النسقيين والمحافظين المشاركين في الثورة.
مع استمرار الاعتصام، لأكثر من شهر، وانسداد أفق التفاوض بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، كانت هنالك تحركات عسكرية بشارع النيل، وحدثت اشتباكات كثيرة بين قوى عسكرية وشباب يقفون في التروس المنتصبة بشارع النيل، وأغلب هؤلاء الشباب من زُوَّار منطقة كولومبيا. قُتلت أعدادٌ كبيرةٌ في هذه الاشتباكات. ومع تعنت التفاوض والتصعيد الثوري المستمر من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير؛ أصدر المجلس العسكري بيانًا يؤكد فيه نيته الواضحة فض منطقة كولومبيا، مبررًا ذلك بأن هذه المنطقة أصبحت مكانًا للجريمة.
في ذات الوقت أو قبله قليلًا تبلور تيار اجتماعي من الطبقة الوسطى والبرجوازية يحكم أخلاقيًا على كولومبيا بأنها "لا تمثل قيم الثورة"، وأن زوار وأهل هذه المنطقة "غير لائقين ثوريًا"، وشاركتهم قوى إعلان الحرية والتغيير ذات النظرة. لا يمكن فهم هذا الانسحاب وإخلاء المسؤولية، سوى أنه عنف رمزي وطبقي وعدم انحياز وفهم لمشكلات هيكلية منذ ميلاد الدولة السودانية كالفقر والحروب. كان الشعار الأساسي للقوى السياسية والمجلس العسكري "أن هذه الذوات يمكن الاستغناء عنها في سبيل تحقيق غاية التفاوض".
هذا السلوك الإقصائي الذي تم ضد شباب هم ضحايا للسياسات الاقتصادية والأمنية والإفقار الهيكلي الذي أنتجته الأزمات الاقتصادية، ليس كسلًا برجوازيًا من القوى السياسية فحسب -التي لم تُحرِّك ساكنًا ضدَّ دعوات المجلس العسكري، بل أعطته شرعية لفض الاعتصام ككل لاحقًا، بل، أكثر من ذلك، هو محافظة على الامتيازات الطبقية للقوى السياسية عبر عنفٍ وخطابٍ رمزي ممنهج تجاه تلك الفئات.
لكولومبيا شهداء قُتلوا في أحداث الثامن من رمضان وما تلاه من أيام رمضان التي حدثت بها اشتباكات في شارع النيل
في الثاني من يونيو "قبل يوم من حدث فض الاعتصام"، ومع تزايد الموجات الإقصائية تجاه هذه المنطقة، والشعارات التي خرجت "كولومبيا لا تمثل الثورة"، مثلًا، كشعار أساسي تم إنتاجه في سياقات الطبقة الوسطى والبرجوازية؛ خرجت مجموعات كبيرة من الشباب والشابات من منطقة كولومبيا في موكب مهيب، يتقدم الموكب شبابٌ يرفعون لافتة عنوانها "كولومبيا تمثل الثورة"، وتؤكد أن لكولومبيا شهداء قُتلوا في أحداث الثامن من رمضان وما تلاه من أيام رمضان التي حدثت بها اشتباكات في شارع النيل، فقُتل هؤلاء الشباب دفاعاً عن ساحة الاعتصام، عند أبوابها في التروس الشاهقة.
اقرأ/ي أيضًا:
آفاق التفكير تنمويًا في الثورة السودانية
خارج حدود الاعتصام.. من بالخارج؟