07-مارس-2020

من منطقة أعالي النفق باعتصام الخرطوم (Twitter)

"خارج حدود الاعتصام" جملةٌ تكررت على أفواه كثيرٍ من القياداتِ السياسية لتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير عند الإشارة إلى منطقة كولومبيا، أيام اعتصام القيادة العامة بالخرطوم. إنها جملة سيادية واصفة لحدود أنفسنا، حدود مَن هم "مِنا"، ومن ليسوا "نحن"، وهي الحدود بين من لا إشكال في أن يموتوا، وبين من ينبغي أن يعيشوا، حدود من هم بشر، ومن هم مبعدون ومهملون.

هم أيضًا بالخارج مِنِّي، وهو امتحاني الأشد قساوة، فكيف يمكن أن أتحدَّث عنهم، وكيف بمقدور المرء أن يخرج من ذاته ويتحدَّث عِوضاً عن آخرين

 جملةٌ تصف بطريقة فجَّة وعنيفة مدى العنف الكامن فينا؛ فكل مَنْ هو بالخارج، هو جحيم ينبغي إطفاؤه؛ نفايات ينبغي تنظيفها وإزالتها؛ أداة ليست للاستعمال؛ آخر يمكن الاستغناء عن روحه؛ ليس هنالك ما هو أكثر فجاجةً من أن يكون هنالك آخر يحسب أنه ينتمي إليك، يمدُّ يده، ثم تزجره إلى الموت، رافضاً أن تمدَّ يدك؛ ما لبث الأمر؛ حتى طالته يد الموت. 

من تغريدة لتجمع المهنيين عن كولومبيا

اقرأ/ي أيضًا: نظام التعليم بالسودان وترسيخ التفاوتات الاجتماعية

هؤلاء "الخارج الحدود" هم محنتنا الحديثة، من أزالتهم الدولة الحديثة من خارطة سيادتها، ومن أفقرتهم سياسات العولمة الاقتصادية وربيبتها الدولة الأمنية "التي فاقت كل توقعاتنا السيئة". هؤلاء هم نتاج العنف الطبقي في أقبح صوره، والسياسات الحربية الهُوَويِّة للدولة "الإسلامويَّة" والدولة "ما بعد الكولونيالية".

كانوا دومًا بالخارج، في معسكرات للنازحين، وذاكرتهم بأرضهم التي تركوها، وأجسادهم ملقاة في صقيع المعسكرات، وبعيدين من مواطنهم، وفي أطراف المدن السودانية، على تخوم الموت، والفقر والتشرُّد؛ وبعيدين من كل تعريف للمواطنة، وكل تعريف للبشري بما هو كذلك.هم أيضًا بالخارج مِنِّي، وهو امتحاني الأشد قساوة، فكيف يمكن أن أتحدَّث عنهم، وكيف بمقدور المرء أن يخرج من ذاته ويتحدَّث عِوضاً عن آخرين.

ملصق لندوة أقامها مثقفون عن دلالت التبرؤ الرسمي من كولومبيا

وبما أني لم أمتَحن حياتَهم يومًا، وكنت دومًا بالداخل. كيف يمكن للمرء أن يكون بالداخل ويتحدث عمن هم بالخارج؟ لذلك سأتحدَّث دائمًا عنهم بما هو "أنا"، حتى وإن كنت أشعر بالقرب منهم أو أردت أن أكونهم، وأن أُمثِّل محنتهم في محفل الثورة ونتائجها القاسية؛ لكنني أريد أيضًا التحدَّث عنهم، بما "هم"، وهذا الإسهاب في قسوتي على نفسي، هو الامتحان الخاص بنا، نحن أبناء وبنات ديسمبر، وسيكون دومًا المثال المُمتحِن لنا منذ بدايات الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: "اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب

فلئن كان ديسمبر أهزوجة الشباب المُعولَم، أبناء وبنات الطبقة الوسطى التي أُفقرت وفُكِّكَتْ؛ إلا أنه أيضًا حلم كل فقير، الحلم الذي ذهب إلى غرف التفاوض ولم يعد؛ إلا في كفن. تبدّد ديسمبر معارك النخب والأفندية من جهة والعسكر من أخرى، لم يكن "الكولومبيون" غير قرابين للتفاوض، كانوا التجلِّي الأقبح لسياسات الماهية التي أخذت تُوزِّع صكوك تعاريفها على الآدميين، وتختم على أجسادهم "غير لائقين ثوريًا"، من هم خارج حدود الانتماء، من لم يُعرَّفوا بعد ضمن "نحن"، أو أنهم عُرِّفوا ولكن بالسلب، أي من ليسوا "نحن"، فكل تعريفٍ حدٌّ، وكل حدٍ رسمٌ لما يمكن أن يوجد، وما ليس بموجود. التعريف في أشد سياقاته العنيفة، هو السلطة مُتخفِّية في لَبوس المعرفة وبقدرتها على سبر غور الأشياء.

 اغلاق شارع النيل الفاصل بين كولومبيا وجامعة الخرطوم (Facebook)

يبدو أن الحياة في المعسكرات، صارت احدى طرق العيش الحديثة لشعوب بأكملها، وطريقة في الوجود البشري؛ صار بعضنا بداخلها. إن مزارع العبيد القديمة عادت مرةً أخرى، لتتحوَّل لمُستوطنات بشرية، فهذا هو الشعب الفلسطيني قابع في مخيمات، وذاك هو الشعب السوري مشرّد على حدود الدول، وهؤلاء هم اللاجئون من مختلف البلدان، فضَّلوا التخلِّي عن انتماءاتهم القومية واختاروا الانتماء لدولٍ وثقافات أخرى، يُريدون أن يعيشوا حياة أفضل، أمثولة "حديثة" فُضلى للحياة، ولكن طريقها الموت، إما غرقًا أو تجارة الأعضاء، وها هم السودانيون قابعون في معسكرات للنازحين داخل بلدانهم في محنة أليمة للذاكرة والجسد.

طاف الموكب المنطلق من كولومبيا  بـ "الداخل" كل أرجاء الاعتصام، يريد أن يُؤكِّد ويُحقِّق لهذه الذوات انتماءها الأصيل وشراكتها القوية في الثورة

كانت كولمبيا دومًا بالخارج، في شكل معسكرٍ مفتوحٍ يُطلُّ على النيل، جَمَع النيل أجسادهم في حنٍ وأهداها لليابسة بعد أن احتضنهم أيامًا، وبعد أن زُجرت أجسادهم من قبل النخبة والعسكر

والطبقات البرجوازية والوسطى "كولمبيا لا تُمثِّل الثورة"؛ لكن لم يتركوا معركتهم في الانتماء، ففي الثاني من يونيو "قبل يوم من فض الاعتصام" خرج موكب من منطقة كولمبيا، يتقدمه شباب وشابات يرفعون لافتة مكتوبٌ عليها "كولمبيا تمثل الثورة"، وطاف الموكب بـ "الداخل" كل أرجاء الاعتصام، يريد أن يُؤكِّد ويُحقِّق لهذه الذوات انتماءها الأصيل وشراكتها القوية في الثورة، كان الموكب هو اللحظة الأخيرة التي انفضَّ بعدها الاعتصام، وانفضَّت تلك الحياة بأكملها.

"خارج حدود الاعتصام" هذه الجملة، ستظل تُسيِّل يدي على أكثر من مقال، من هول لؤمها وفظاظتها، فمن محاولة الجواب على سؤال "ما الخارج؟". إلى محاولة الإجابة على أسئلة أخرى عن هؤلاء الخارج.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السودانيون وعبء الحرية الثقيل

ديسمبر الجليل.. تأويلية المكان وجماليات المقاومة