تبدو مظاهر المولد في السودان مختلفة بعض الشيء عن الدول العربية والإسلامية التي تمارس نفس الاحتفالات بطبيعة الحال، حيثُ لا يغلب على الاحتفال بالمولد في السودان الركون إلى البهرجة والمتع الحياتية، كما يحدث في معظم الدول العربية والإسلامية التي تحتفل بالمولد، كالمغرب ومصر، فالسودان الذي تسيطر على مجتمعاته "الصوفية"، بوجود أكثر من (40) طريقة صوفية، والتي صبغت مجتمعه مجتمعاته المتعددة والمتنوعة، بصبغة النزوع للزهد وإنكار المتع الحياتية، حتى إن النظام القضائي في السودان، يتشدد في تطبيق أقصى العقوبات على من يعتبرهم "عاصين" وفقًا للمعيار الديني في أيام احتفالات المولد، فلو حدث أن خالف البعض المعايير الدينية والأخلاقية أثناء أيام الاحتفال بالمولد، فالعقوبة تشدد، فعقوبة "شرب الخمر" مثلًا في السودان يختلف تطبيقها عن الأيام العادية، التي يرجع تقديرها للقاضي، لتكون أشد وقعًا على مرتكبها في أيام احتفالات المولد.
اختتمت الخميس الماضي فعاليات ذكرى مولد المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم في السودان تزامنًا مع ذكرى ميلاده
واختتمت الخميس الماضي فعاليات ذكرى مولد المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم في السودان، تزامنًا مع ذكرى ميلاده، التي احتفل بها المسلمون في كل الأقطار الإسلامية والعربية، كما أعلنت الحكومة السودانية، الخميس الماضي عطلة رسمية بمناسبة المولد.
اقرأ/ي أيضًا: هل يهدد الذكاء الاصطناعي مستقبل الصحافة والصحفيين؟
وللمولد في السودان أجواء خاصة، فربما لا تخلو ذاكرة أحد السودانيين من لحن بردة البصيري، التي ترددت على مسامع جلّ السودانيين في ذكرى مَولِد نبي الإسلام محمد، والذي رغمًا عن الملصقات التي كانت توزعها بعض الجماعات السلفية –اختفت هذا العام بشكلٍ لافت- التي تدعي فيها أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف "بدعة" محذرة من الاحتفال به، كان لا يفسد أجواؤه الخاصة في السودان أي حذرٍ، فـ"حلاوة" المولد بالنسبة للسودانيين، تتم في اللقاء الجامع الذي خصص له ميدان أو "مسيد" في ختام أيام الاحتفال بالمولد في أغلب مناطق السودان، ففي عاصمة السودان الخرطوم يشهد ميدان "الخليفة" بأم درمان ختام ليالي الاحتفال بالمولد، والتي تنطلق فيه زفة المولد، حيث تتجمع معظم الطرق الصوفية، لتؤسس لذلك المشهد الوجداني الذي رسخته الطرق الصوفية في مجتمعات السودان، لترفع الكُلفة والمراقبة عن النفوس، وينخرط الحضور في إبداء انفعالاتهم الوجدانية، تيمنًا بذكرى مولد النبي محمّد.
وأكدت الجهات الرسمية خلو احتفالات المولد هذا العام من أي هجمات أو أحداث ذات طبيعة تكفيرية أو معارضة لشرعية الاحتفال من ناحية دينية، حيث كانت بعض الجماعات المتشددة تنشط في هذه الأثناء من العام، لمعارضة الاحتفال بالمولد النبوي.
وفي العام 2016، شاركت الشريحة الاجتماعية الواسعة، من معجبي الفنان الراحل محمود عبد العزيز "الحوّاتة" في احتفالات المولد في السودان بشكل رسمي، ما ظلّ أمرًا متكررًا تقوم به المجموعة في كل عام في ذكرى مولد النبي محمد.
وشهد هذا العام تمثيل رسمي لأجهزة الحكم في الاحتفالية المعتادة، التي تتم بمشاركة جميع فئات المجتمع السوداني، حيث شارك هذا العام في ختام فعاليات الاحتفالية الشريفة، كل من عضو مجلس السيادة الانتقالي، محمد الفكي، ووالي الخرطوم المكلف خالد نمر.
وثق لاحتفاليات والمشاهد الوجدانية التي يعيشها السودانيون في ليلة المولد في السودان، قصيدة تحمل عنوان: "ليلة المولد" للشاعر المتصوف محمد المهدي المجذوب، حيث قام بعكس ذلك الجانب الإيماني والوجداني الذي يصاحب الاحتفاليات.
كما لا تخلو ليالي المولد واحتفالاتها من بعض الأحداث التي تعتبر خروجًا عن آداب السلوك العام في بعض الأنظمة الثقافية في السودان، أو لدى السلطات الرسمية، إلا أن العقل الشعبي السوداني لا يتشدد في محاكمة أيًا كان في تلك الأجواء التي يسودها جو من التسامح والغفران، يقول المجذوب في قصيدته:
وفَتاةٌ لوْنُهَا الأسْمَرُ مِن ظِلِّ الحِجَابْ
تتَهَادَى فِي شَبَابٍ وارْتِيَابْ
قد تُحَيِّيكَ وتَدعُوكَ بأطرَافِ الثِّيَابْ
وهْيَ قَيدٌ وانطِلاقْ
واضطرَابٌ واتِّسَاقْ
إنْ نَأتْ عَنّا وأخْفَتْهَا الدِّيَارْ
فعَرُوسُ المَوْلدِ الحَلْوةُ جَلَّاهَا التِّجَارْ
لبِسَتْ، ألوَانُهَا شَتَّى، أمِيرَة
ما أُحَيْلَاهَا صَغِيرَة
وقفَتْ فِي كَرْنَفَال
فَوقَ عَرْشٍ دُونهُ الحَلْوَى كنُوزٌ ولآلْ
من أسَاطِيرِ الخَيَالْ
وتعتبر القصيدة، نصًا مرجعيًا توثيقيًا لصاحبها لتلك الحالة الوجدانية التي يعيشها السودانيون في تلك الأثناء، والتي قام المغني السوداني عبد الكريم الكابلي بتلحينها وأدائها، لتكون إحدى الأعمال الفنية التي توصف المشهد الوجداني الذي يعيشه السودانيون في ليلة المولد، بل حتى من أشهر الغنائيات السودانية.
وما يزيد من زخم احتفال المولد، هو ظاهرة المادحين الذين ينشطون في نظم وأداء القصائد الممجدة لسيرة النبي محمد، والذين في السودان لهم مكانة خاصة، حيث حتى في الأيام العادية من أيام السنة المختلفة، ينشط "المدّاح" في مختلف الخلوات والأماكن الدينية الصوفية "المسيد"، في إقامة ليالي مخصصة للذكر وسيرة النبي محمد، كما ارتبط المديح بشكله التقليدي باستخدام الطار، وحديثًا دخلت بعض الآلات الموسيقية الحديثة في إنتاج موسيقى المديح، ومن أشهر المادحين في السودان هم أولاد حاج الماحي، والمادح إسماعيل محمد علي.
ويتشارك السودانيون تفاصيل مشابهة لعدد من الدول التي تحتفل بالمولد، كبيع الحلوى الشعبية المشهورة في السودان "حلاوة المولد"، والأناشيد والأذكار الصوفية، وبعض البهرجة والزينة، كما تنظم بعض الجهات والطرق الصوفية ندوات دينية تثقيفية.
اقرأ/ي أيضًا: "أنثى الأنهار" تكتسي بالذهب
وفي جانب اجتماعيٍ آخر، يحرك السودانيون دورتهم الاقتصادية، طوال أيام احتفال المولد، فينخرط السودانيون في الشراء والتبادل والتهادي لما يعرف بـ"حلاوة المولد"، والتي تتكون من سكاكر محلية، يتم تصنيعها من منتوجات سودانية، كالفول والسمسم وغيرها من المحاصيل، كما تظل هذه المنتوجات معروضة للبيع لأيام حتى بعد انقضاء أيام الاحتفال الرسمية، فميدان المولد في السجانة بالخرطوم، وغيرها من أماكن الاحتفال، تظل محالًا مفتوحة للأفراد والأسر، ليتزودوا بحلوى المولد، حتى بعد انقضاء أسابيع من انتهاء الاحتفال الرسمي. كما يمثّل التشارك في الأطعمة التي تقوم بإعدادها الطرق الصوفية والجماعات الدينية أيام الاحتفال مشهدًا من مشاهد التماسك الاجتماعي، بتوزيع الطعام للفقراء والمحتاجين.
لا تكاد تخلو مدينة أو قرية في السودان الحالي من مسيد أو خلوة أو طريقة صوفية
المولد في السودان لا يقتصر الاحتفال به في الوسط أو الخرطوم، فالطرق الصوفية انتشرت في معظم أرجاء السودان، فلا تكاد تخلو مدينة أو قرية في السودان الحالي، من مسيد أو خلوة أو طريقة صوفية، كما لعبت الطريقة البرهانية، دورًا بارزًا في جذب العديد من السياح الدينيين للسودان، خصوصًا وأن الطريقة تتميز بأتباع لها حتى من الدول الأوربية والغربية.
اقرأ/ي أيضًا