أحد أبرز أحداث الأيام الفائتة كانت متمثلة في إدانة قتلة الشهيد أحمد الخير بالقتل العمد في قضية تعذيب أستاذ مقاطعة خشم القربة والتي تعاطف معاها كل قطاعات الشعب السوداني إبان ثورة كانون الأول/ديسمبر وذلك بسبب الطريقة الوحشية التي عذب بها حتى الموت، فضلًا عن رمزية "المعلم" في المجتمع السوداني السمح المبتعد في الغالب عن نوازع العنف.
يطرح أمر إدانة (27) من عناصر الأمن في هذه الجريمة التي يندى لها جبين الإنسانية الكثير من الأسئلة الصعبة!
يطرح أمر إدانة (27) من عناصر الأمن في هذه الجريمة التي يندى لها جبين الإنسانية،عددًا من الأسئلة: ما الذي يدفع البشر لهذا القدر من العنف تجاه شخص واحد أعزل لا يشكل أي خطورة في محبسه؟ فمهما تعالت رغبات التشفي والإذلال لا يمكن تخيل أن تصل لهذا المدى غير المستوعب للإنسان السوي. خلقت القضية جدلًا في الأسافير بين النخب حول طبيعة الدافع البعيد لهذه الدرجة من العنف وساد إلى حد معتبر الرأي القائل أن "الآيديولوجيا الإسلاموية" الشمولية هي السبب في هذا العنف، ولقي هذا الرأي رواجًا مما ساهم في استدعاء أدبيات الإرهاب السائدة في الإعلام المرئي والمسموع لتعضيد هذا الرأي.
اقرأ/ي أيضًا: البشير ومايو.. خلفيات تأسيس جهاز الأمن السوداني
دفعني هذا الجدل للنظر في السؤال المعروف بسؤال العنف والذي كتب فيه الكثير في أدبيات العلوم الاجتماعية، ووجدتني أتبنى الرأي القائل أن أي فكر له قابلية للعنف أو التحول إلى عنف ويقوم مدار الأمر كله على البنية الاجتماعية أو الظرف الاجتماعي السائد وأيضًا على "السلطة" وأعني بها هنا "القوة السياسية الباطشة".
تحدثت منذ أواسط ستينات القرن العشرين فيلسوفة علم الاجتماع السياسي "حنة أرندت" في كتابها "ايخمان في القدس"، عن أدولف ايخمان وهو مهندس النازيين لعمليات الإبادة الجماعية عبر المحرقة لليهود وهي العمليات التي عرفت رسميًا في الدولة النازية باسم "الحل الأخير". وقد شهدت أرندت جلسات محاكمته كلها والتي ضمنت تفاصيلها في عملها "ايخمان في القدس" وكانت قضية هذا العمل حول العدالة والنظم التوتاليتارية وما إلى ذلك. لفتني تعبير "تفاهة الشر" الذي وسمت به أرندت قضية ايخمان ككل والذي كان دفاعه عن نفسه في الجلسات أنه "كان ينفذ الأوامر ويطيع علم بلاده". الأمر الذي أثار فيما بعد في عدد من الدوائر الأكاديمية سؤال الحرية الفردية والبنية السلطوية المهيمنة وهو جدل قديم متجدد بأشكال متعددة في علم الاجتماع. فهل يكون للعنف تعاريف وتبريرات أخرى في سياق سلطة الدولة والبنية المسيطرة؟ وهل تذوب حرية وذاتية ومعيارية الفعل عندما يدخل الفرد في سياق البنية أم لا ؟ مما يثير أيضًا سؤالًا مهمًا حول الفصل الحديث بين الأخلاقية المعيارية للفعل وبين كونه صائبًا من ناحية مؤسسية. فقائد المركبة الحاملة لليهود ومؤدية بهم نحو المحرقة هو في الحقيقة يشارك في عملية إبادة ولكن في نفس الوقت هو يؤدي "وظيفته" وهي قيادة العربة. وهذا طرف من هذا المأزق المعروف في أدبيات هذا المجال.
لا أميل لتخصيص فكر معين بالعنف، فبنيوية العنف وكمونه يكون بصورة رئيسية في قابلية الإنسان للعنف والشر متى ما توفرت السلطة وانعدمت الرقابة والوازع الأخلاقي.
اقرأ/ي أيضًا: الواثق البرير.. والديمقراطية "الحرون"
على سياق متصل، من التجارب الشهيرة في علم النفس تجربة سجن ستانفورد والتي خلقت ضجيجًا كبيرًا في أوساط هذا العلم، وعلى الرغم من الجدل الذي لا زال قائمًا حول مدى فاعليتها في توصيف سلوك الإنسان داخل بنية السلطة إلا أنها تعتبر مؤشرًا لا بأس به في فهم هذا الأمر. حيث قام الدكتور زيمباردو في جامعة ستانفورد بعمل تجربة محاكاة للسجن الحقيقي وذلك بإحضار متطوعين للعب دور السجانين والسجناء وكأنها بيئة حقيقية. لم تكتمل المدة المقررة للتجربة حيث اضطر الدكتور لإيقافها، وذلك بسبب النزوع غير المتوقع للمتطوعين الممثلين لدور السجانين لعنف زائد عن المتوقع وابتكار أنواع جديدة من الإذلال والإهانة والتعذيب للسجناء الآخرين. كان هذا التماهي في التجربة والتلذذ بسبب السلطة الممنوحة والأمان من المسائلة القانونية، كان كل ذلك قائدًا لهذا النزوع الشديد نحو العنف.
لا يمكننا تبرير العنف ثقافيًا بإلصاقه بالأفكار حيث ينهار هذا الحجاج مع أول مماحكة نقدية حيث نجد سواء على مستوى العالم أو على مستوى التاريخ السياسي السوداني
لا يزال بالتأكيد الجدل قائمًا حول هذه التجربة. ولكن بالمجمل يعتبر ذلك مؤشرًا لقابلية الإنسان للشر/العنف وللخير على حد سواء، ولكن يتوقف كل ذلك حول الرقابة والوازع والظروف الرادعة والمحجمة لذلك، فلا يمكننا تبرير العنف ثقافيًا بإلصاقه بالأفكار حيث ينهار هذا الحجاج مع أول مماحكة نقدية حيث نجد سواء على مستوى العالم أو على مستوى التاريخ السياسي السوداني، المليء بشواهد العنف من كل التيارات من اليمين إلى اليسار إلى الوسط.
رحم الله الشهيد أحمد الخير وشل أيدي قاتليه وانتقم منهم. ولا نقول إلا أن الشر تافه.. والعدالة باقية.
اقرأ/ي أيضًا