كان الجسد المسجى في الغرفة قد فارقته الحياة. هواء الصباح المحمل بالرطوبة في مدينة بورتسودان يداعب نافذة الغرفة المدد فيها جسدها. وكان النقاش حوله يعلو ويصمت. كان هم الجميع وهم يغالبون حزنهم كيف ينفذون وصية المرأة الميتة، وهي كانت قد اختارت موضعًا لدفنها يبعد من هنا قرابة (200) كيلو متر. لم يكن قلق الرجال من طول المسافة ولكن من انتشار الخبر وأن لا يسمح لهم الناس في بورتسودان بدفنها خارجًا. ولو أنهم نجحوا بالخروج منها. فلن ينجحوا في الخروج به من سواكن، وأهل سواكن حجتهم أقوى ونسبتها إليهم أكبر.
خرج الناس راجلين وراكبين دوابهم وتحملهم السيارات. خرجوا بدون اتفاق مسبق ليشهدوا دفنها ويقيموا عليها صلاة الجنازة.
اتفق الجميع على أن حلهم الوحيد هو كتمان الخبر حتى إنجاز المهمة، وبعد أن وصلوا المكان المنشود تم إعلان الخبر. لقد توفيت والجثمان الآن في "سنكات" وسيدفن فيها.
خرج الناس حينها من كل مدن الشرق وقراه، من بورتسودان وشماله ومن سواكن و سلوم وسنكات وجبيت وهيا. خرجوا راجلين وراكبين دوابهم وتحملهم السيارات. خرجوا بدون اتفاق مسبق ليشهدوا دفنها ويقيموا عليها صلاة الجنازة. ومن يومها وفي كل عام في نفس التوقيت يتجمع الناس عندها لتصبح "ستي مريم" إحدى الأساطير السودانية المنسية.
اقرأ/ي أيضًا: اتجاه لإعادة منسوبي "هيئة العمليات" المحلولة للعمل في حراسة حقول النفط
"مريم الميرغنية" المولودة في العام 1886 ربما تنتاب سيرتها بعض الحمولات السياسية، كونها تنتمي لبيت المراغنة الذي كوًن "حزب الشعب الديمقراطي"، وقام بالتحالف ثم الاندماج مع الحزب الوطني الاتحادي ليأخذا الاسم الأخير من كل واحد فكان ميلاد "الحزب الاتحادي الديمقراطي".
ومنطقة شرق السودان المعروفة بتأييدها للحزب الاتحادي الديمقراطي والطريقة الختمية تجعل من أسطورة الحولية المتجددة كل عام حدثًا يفهم من السياق.
لكن كل هذا مجرد تحليل كسول وربما عكسي، فمريم توفيت في العام 1952 قبل استقلال السودان ولم تنتم أصلًا لحزب. ومن جيلها وبعدها العديد من قيادات الختمية لم تتحول ذكرى موتهم لحدث أسطوري أقربهم زوجها السيد "محمد عثمان تاج السر"، المدفون بمدينة سواكن. الحقيقة هي أن السيدة مريم عاشت كأسطورة فاستحقت سيرتها بعد موتها.
يمكن أن تطلق عليها وبكل ثقة "رائدة العمل النسوي" في السودان، فما قامت به في وقتها لم يتكرر حتى الآن، فمن محل إقامتها في سواكن التي تقضي فيها فصل الشتاء تتحرك مع اقتراب الصيف إلى مدينة سنكات، تتفقد ستي مريم القرى والناس وتعطي توجيهاتها بأن تحفر بئرًا للماء هنا وأن يقام المسيد هنا، وتلك المنطقة تصبح مدرسة "خلوة". تفهم بيئة الشرق المحافظة وهي ترى بعينها كيف تموت النساء أثناء الولادة فتقرر إيفاد نساء مختارات ليصبحن قابلات. كان ما ورثته من أموال عن أبيها في الحجاز يشكل تمويلًا ضخمًا لمشاريعها الخيرية. وسطوتها كبنت لبيت المراغنة تجعل من أمور مستحيل حدوثها ممكنة.
اقرأ/ي أيضًا: رئاسة جنوب السودان تؤكد اقتراب موعد إعلان الحكومة الانتقالية الجديدة
لتعود في رحلتها العكسية تتابع تنفيذ توجيهاتها حتى صارت رحلتها مقدمًا للفرج عند الناس يطرحون مشاكلهم وينتظرون منها الحلول. كان صيتها يتمدد فهي من تدفع رواتب المعلمين في المدرسة الأهلية ببورتسودان. وهي من تقوم بأعمال التنمية من شرق السودان وحتى أريتريا، وحين داهمها المرض مرة أرسل الملك فاروق سفينته "المحروسة" لتقلها في رحلة العلاج إلى مصر، وكتب حبها في قلوب الناس أغنيات مجدتها:
"السلام يا غنية..
مريم الميرغنية..
الختم والد أبوكي..
و في البلاد بيندهوكي..
كان الناس يستيقظون من ولادتهم هناك فيوردون الماء من المضخات الارتوازية التي شيدتها ويتعلمون القرآن في الخلاوي التي بنتها ويهرعون بعد كل مولود أمه معافاة لإكرام القابلة التي أحضرتها ستي مريم، ولا يخشون سنين القحط طالما هي موجودة:
"ستي مريم جات بسريع نازلة عند حجر الدرع..
والمرض حتتو كالزرع..
لي تعالي و تاني أرجعي..
اقرأي/أيضًا: قيمة "الكابلي" الفنية.. حين تعود الطيور لأوطانها فلا شيء أجمل من الغناء
كانت الأغنيات تمجدها وتمجد صنيعها، ومن أصدق من ذاكرة الغناء الشعبي؟ ورغم أن السودان في فترته تلك وربما حتى الآن كانت سير الخوارق والمعجزات رائجة فيه ولها سوق مبذولة، إلا أنك لن تجد في سيرتها منها إلا ما ندر، فهي كانت الأولى في سيرة العاديات من شأن الحياة ولكن بإسهاب. يولد الأطفال على حبها عرفانًا بجميل يرونه أمامهم لا قصصًا تروى أو حكايات فقط.
خاضت معاركها مع مجتمعها بقوة وجسارة وطابقت قولها فعلها حين جعلت السؤال "هل تموت بناتنا ونساؤنا أم يتعلمن ليعشن؟"، ثم نفذت الإجابة عملًا لا قولًا. "علينا أن نرسل منهن ليكن قابلات".
"ستي مريم" التي تغفل مقالات المركز وكتاباته حقيقة أنها من رائدات الحركة النسوية، أصبحت فنارًا يقف شامخًا في الجهة الشرقية من السودان
ثم خاضت معركة شخصية أخرى حين قدمت للمجتمع أن المرأة التي لم تنجب هي أم لأبناء كثر. فمريم التي لم تلد عاملت أطفال شرق السودان كأنهم فلذات أكبادها.
مريم ولأنها من بلد لا يهتم بالتوثيق وحتى في بلدها هذا، هي ليست من أبناء المركز الذي يسيطر على أدوات الثقافة والإعلام. لم يذكر سيرتها أحد أو تذكر نادرًا.
لكن البسطاء الذين نذرت حياتهم لأجلها لا يزالون إلى يومنا هذا يتوارثون محبتها. ففي كل عام تكون ذكرى وفاتها المعروفة شعبيًا بـ"الحولية" في أول خميس من شهر رجب من كل عام، هي التجمع البشري الأكبر في البلاد.
عاشت لهم وعرفت قيمة أن يحب الإنسان أبناء وطنه وبادلها الناس العطاء والحب بمثله. لتصبح "ستي مريم" التي تغفل مقالات المركز وكتاباته حقيقة أنها من رائدات الحركة النسوية، فنارًا يقف شامخًا في الجهة الشرقية من السودان. الآن وأنت تقرأ هناك أحد في طريقه ليرد الماء من إحدى المضخات التي شيدتها.
اقرأ/ي أيضًا:
جوبا.. مفاوضات تقسيم المقاعد الوزارية تصل إلى طريق مسدود
استقبال شعبي ورسمي للرئيس الألماني..والبرهان يخرق البروتوكول