02-نوفمبر-2019

اعتصام القيادة العامة (شبكة رصد)

يبدو جليًا أن تجمع المهنيين قد بدأ يفقد بعض من البريق والقدسية، التي اكتسبها من خلال قيادته الطويلة والرشيدة للشارع في حراكه الطويل ضد نظام الظلم والفساد. وذلك بعد ارتفاع الأصوات الناقدة له بعيد الاتفاق السياسي الذى أفضى إلى تكوين المجلس السيادي والحكومة الانتقالية. لربما كانت حالة الغموض التى تلف هياكل الجسم وطريقة تكوينه ومنهج أتخاذ قراراته من العوامل الرئيسية التى ساعدت على الالتفاف حول تجمع المهنيين، في ظل حالة تميزت بغياب كلى للثقة بين الشارع والأجسام والشخصيات السياسية التى توارثت الفشل سنينًا طوال لأسباب متعددة. في وقت كان فيه سؤال "من وراء، وما الهدف؟" كافيًا لإجهاض أي مبادرة تنظيم لنشاط سياسي معارض.

الالتفاف الذي وجده تجمع المهنيين من قبل الشارع السوداني كان نتاج تقاطع وتداخل عوامل وظروف معقدة يصعب أن تتكرر

لا يمكن تجاهل الدور الكبير الذى لعبه تجمع المهنيين في تنظيم المواكب والوقفات الاحتجاجية خلال مسار الحراك الثورة الذي استمر أكثر من أربعة أشهر قبل تنحية البشير، حيث استطاع التجمع ببعض غموضة حينها أن يستفيد من حالة الغليان والسخط الواقعين على الحكومة من قبل الشارع، جراء الضيق الاقتصادي؛ بتبنيه خطاب ثوري عمومي مرن اجتذب الشباب، والتف حوله الشارع على اختلاف توجهاته مع توظيف جيد للميديا ووسائل الاتصال المتاحة.

اقرأ/ي أيضًا: قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

نشأ الجسم في ظل أوضاع وظروف بالغة التعقيد حيث سيطرة الاتحادات والأجسام النقابية الحكومية الضعيفة، وحيث كانت السلطة تمارس تضييقًا كبيرًا على أي نشاط يفضى إلى تكوين تجمعات مهنية كبيرة قد تشكل ضغطًا على الحكومة. وهذا ما يبرر الاختلالات الهيكلية والتنظيمية والإدارية في جسم تجمع المهنيين، وهي أمور يمكن أن يتم التغاضي عنها أو تجاوزها مؤقتًا باعتبار أن التجمع كان عبارة عن تحالف مرحلي، استدعته ظروف وسياقات معينة وأنه وفي الظروف المثالية سيتم إعادة تكوينه ليلائم الظروف الجديدة. ولكن الكثير من الهنات والأخطاء التنظيمية والتقديرية التي وقع فيها الجسم ممثلًا في قيادته، قد تؤدي أو أدت إلى سحب بساط القيادة والقبول من تحت أقدام التجمع، على الرغم من أن الأمر ليس بذلك اليسر، فالالتفاف الذي وجده تجمع المهنيين من قبل الشارع السوداني كان نتاج تقاطع وتداخل عوامل وظروف معقدة يصعب أن تتكرر، مما قد يصعب أي محاولة لاستبدال تجمع المهنيين بجسم آخر. وهي نقطة في صالح تجمع المهنيين إن أحسن استغلالها، خاصةً أن الكثير من الأجسام الشبابية حاولت مرارًا أن تجد موضعًا منافسًا لتجمع المهنيين على الأرض أثناء وبعد الحراك ولكنها فشلت جميعًا.

 كانت معضلة المشاركة السياسية في هياكل السلطة هي بذرة الشقاق الأول بين التجمع والشارع، حيث سقط التجمع في وحل الوعود المثالية التي قطعها أثناء الحراك، بتعرضه لضغط بل وابتزاز الشارع باعتباره خائنًا للثورة والشهداء إنه أخل بوعد عدم المشاركة في مستويات السلطة الناتجة عن أي اتفاق، رغم أن المشاركة في السلطة من عدمها كان أمرًا يقبل الأخذ والعطاء، إن لم يبذل التجمع وعودًا على الهواء. كان يمكن لتجمع المهنيين قبلًا بناء موقف واقعي تجاه قرار المشاركة في السلطة من عدمها تساعده في تجاوز الربكة التي حدثت لاحقًا جراء ما تم اعتباره تناقضًا بين تصريحات قادة التجمع وأفعالهم، بعد أن تم الكشف عن ترشح بعض قادة التجمع لمناصب سياسية في الفترة الانتقالية. ولو أن التجمع انحنى أولًا للضغوط بسحب مرشحه لمجلس السيادة، إلا أن بعض قياداته شاركت لاحقًا في بعض الهياكل الحكومية. كما أن الربكة بذاتها حفزت لنشوء مشاكسات بين بعض قادة أجسام تجمع المهنيين، التي تظهر حرصًا على أهداف الثورة ولكنها تبطن غيرة - ربما، مما أفقد الجسم تماسكه وبالتالي اهتزت صورته المثالية المتخيلة في الشارع.

اقرأ/ي أيضًا: تركة البشير البالية.. دولة موازية تؤرّق السودانيين

عطفًا على التاريخ فقد شاركت جبهة الهيئات الجسم الذي قاد حراك الشارع ضد عبود في تشرين الأول/أكتوبر من العام ١٩٦٤، في تكوين حكومة كان نصف أعضائها من الأجسام النقابية التي شاركت في تنظيم ودفع الحراك الثوري، كمان أن جبهة الهيئات التي قادت انتفاضة نيسان/أبريل ١٩٨٥ شاركت أيضًا بفعالية في الحكومة الانتقالية التي تلت الانتفاضة.

لربما لم يحتط قادة تجمع المهنيين لصعوبات الواقع في صراع الالتزام بالوعود التي تم اطلاقها في لحظات انفعال، كانت صورة المستقبل فيها غاية في الضبابية، ولكن الأحلام والامنيات كانت تصور مستقبلًا زاهيًا تنتصر فيه الثورة كليًا وتتكون حكومة مدنية بالكامل. ولكن رياح التغيير الناعم الذي فرضه منطق توازن القوى لم تأت بما تشتهي سفن الثورة. فكان الاصطدام بالواقع القادر دائمًا على إفساد التصورات المثالية؛ فحدث ما حدث.

اقرأ/ي أيضًا: جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية

التجمع لم يكن جسمًا قاعديًا كالأجسام التي قادت الثورات السابقة، وبالتالي فإن احتمالية استمراره بعد نجاح الحراك وتكوين حكومة انتقالية كان أقل، وفقًا للمعطيات الواقعية، كان من الطبيعي أن تتحد الأجسام المهنية المختلفة بعد نجاح الثورة في إتجاه تكوين أجسام نقابية مستقلة تشكل نواة التجمع المهني. مما يعني زوال تجمع المهنيين أو إعادة تشكيله بتمثيل قاعدي. ولو كان للتجمع دور خلال الفترة الانتقالية، كان سيكون بالضغط في اتجاه تكوين أجسام نقابية تلبي رغبات التجمعات المهنية، بالعمل على تغيير قوانين الاتحادات المهنية كما كان يمكن للتجمع لعب دور مراقبة الحكومة ايضًا من خلال المشاركة في هياكلها. ولكن الخلاف الأخير داخل جسم التجمع كان تحديدًا بسبب الاختلاف حول حل وتشكيل الاتحادات المهنية، وقرار حلها الذي أصدره المسجل القانوني بالاتفاق مع بعض قيادات تجمع المهنيين، كما تم الكشف عنه، وهو ما أدى لتصاعد الخلاف بين التجمع في مجلسه القيادي، والأجسام المكونة له لدرجة صدور بيانات تطالب بمحاسبة بعض قادة تجمع المهنيين لتجاوزهم لآراء ممثلي الاجسام المكونة لتجمع المهمنين، مع حالات استبدال لبعض مندوبي الأجسام المهنية في الجسم المركزي وفصل بعضهم لتجاوزات.

كان يمكن للتجمع بناء موقف واقعي تجاه قرار المشاركة في السلطة يساعده في تجاوز الربكة التي حدثت لاحقًا

يحاول تجمع المهنيين لملمة أطرافه بعد الهزات العنيفة التي تعرض لها خلال الشهور الأخيرة بإعاداة هيكلة الجسم، وبضبط قنوات الإتصال مع الجمهور للحفاظ على درجة التأثير على الشارع، والحفاظ على الكتلة الحرجة بتفادي أي شقاق قد تكون نتائجه وخيمة على الثورة، وهو أمر قد يخرب الصورة الجميلة التي كونها الشارع عن التجمع.

 

اقرأ أيضًا

السودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية

حتى لا يسرق شبح الطبقة الوسطى ثورتنا الجذرية