25-يوليو-2023
آثار الحرب في الخرطوم

تدمرت العديد من المنشآت الحكومية نتيجة الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع (Getty)

مساءً على أزقة إحدى حارات مدينة أم درمان، وأثناء عمل إحدى الدوريات التي شكلها شباب الحي من أجل الحفاظ على الأمن الذي انفرط عقده منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منتصف نيسان/أبريل الماضي، سمع محمد ورفاقه أصوات صرخات لفتاة تنطلق من إحدى المنازل، فهبوا جميعًا في اتجاه مصدر الصوت لتقديم "الفزعة" لمن يحتاجها في ذلك المنزل. يقول محمد سعد لـ"الترا سودان" إنهم قاموا بتسلق أسوار المنزل لتقديم المساعدة، فلا وقت لطرق الأبواب في مثل هذه المواقف، لتقابلهم والدة الفتاة بالاعتذار معللة ما يجري بأن ابنتها تعاني من اضطرابات نفسية، وقد خرج الأمر عن سيطرتهم في ظل أصوات المدافع والمضادات التي لا يعلو صوت عليها في سماوات الخرطوم.

 

العديد من مستشفيات الصحة النفسية والعقلية خرجت عن الخدمة، فيما أقفلت عيادات الطب النفسي في مناطق الاشتباكات أبوابها

وبحسب دراسات سابقة، بلغ عدد المرضى النفسيين في ولاية الخرطوم فقط (58,765) مريضًا ومريضة، وهم يحتاجون بطبيعة الحال إلى أجواء مهيأة ليتمكنوا من ممارسة حياتهم بصورة عادية، فيما ينتفي ذلك في ظل الظروف التي تمر بها البلاد، والتي من الصعب حتى على الأشخاص الذين يتمتعون باستقرار نفسي تجاوزها.

والجدير بالذكر أن العديد من مستشفيات الصحة النفسية والعقلية خرجت عن الخدمة، فيما أقفلت عيادات الطب النفسي في مناطق الاشتباكات أبوابها فيما يصنف بالكارثة الصحية والتي قد تسبب انتكاسة لعدد من المرضى كما أفاد متخصصون في هذا المجال، الأمر الذي من شأنه أن يحول هؤلاء المرضى إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي توقيت.

نقص إمدادات الدواء 

أيام من البحث المتواصل قضاها أحد المواطنين والذي فضل عدم ذكر اسمه بحثًا عن الأدوية الخاصة بشقيقه الأصغر والذي يعاني من أحد الاضطرابات العقلية. يقول المواطن إن الدواء يلعب دورًا كبيرًا في استقرار حالة شقيقه وتحسين حياته، وأن الاستمرار في انقطاع شقيقه عن العلاج سيفقدهم السيطرة عليه في نهاية المطاف، وسيجعل من العودة لحالته الطبيعية أمرًا شبه مستحيل.

https://t.me/ultrasudan

 

ومع ازدياد وتيرة الاشتباكات في المنطقة التي يسكن بها، يعاني شقيقه المريض من نوبات هلع تفقده القدرة على التنفس بشكل منتظم، وناشد هذا الشاب الجهات المختصة بتوفير إمدادات الدواء الخاصة بالمرضى النفسيين ووضعها في مقام واحد مع الأدوية المنقذة للحياة.

وأسفرت الحرب عن خروج عدد كبير من الصيدليات والمؤسسات الطبية عن الخدمة، فيما تعرض البعض الآخر لعمليات نهب واسعة كانت سببًا في تردي الخدمات الطبية وتعريض المرضى بكل أطيافهم لخطورة بالغة.

معاناة النزوح

تعاني (م) من موجات من الاكتئاب الفصلي، وهي تحب العزلة ولا يروقها الاختلاط بالآخرين، واضطرت هذه الشابة إلى النزوح إلى منزل أحد أقاربها بولاية الجزيرة. تقول في حديثها لـ"الترا سودان" إنها تشعر بضيق شديد كونها تجلس في منزل مكتظ بالأشخاص، وتجد أنها فقدت خصوصيتها بشكل كامل، بينما تشعر أحيانًا أنها ستنتابها حالة من الصراخ جراء لعب الأطفال وتداخل الأصوات الذي يذكرها بالمناسبات الاجتماعية، والتي لطالما تغافلت كثيرًا عن حضورها، بينما تجد صعوبة بالغة في ممارسة روتين حياتها اليومي.

وأضافت أنه من الصعب على أسرتها تحمل تكلفة استئجار منزل خاص بهم، يمنحها بعضًا من الخصوصية، وتشعر فيه أن تصرفاتها ليست تحت الأنظار، الأمر الذي من شأنه أن يعرضها لكثير من المضايقات والتي يتحتم عليها أن تتعامل معه إلى أجل غير مسمى.

تدابير خاصة

"الأمر أشبه بكرة جليد تتدحرج من على سفح جبل"، هكذا وصفت الأستاذة مي علي الاختصاصية في علم النفس معاناة المرضى النفسيين في ظل هذه الظروف التي تتعرض لها البلاد، مؤكدة على ضرورة وضع تدابير خاصة لهذه الشريحة من المجتمع والتي تتكبد هي وأسرها معاناة مضاعفة، حيث يصبح كل شيء متضخمًا لديهم. وتضيف لـ"الترا سودان": "لا بد من عمل مخيمات متحركة بالخرطوم بمساعدة المنظمات لتقوم بتقديم المساعدة والدعم النفسي لهؤلاء المرضى وتوفير الأدوية الخاصة بهم بلا مقابل مادي".

فيما شددت الاختصاصية في علم النفس على ضرورة عدم التعامل مع هذه الاضطرابات كأنها وصمة من قبل أفراد المجتمع، حتى يستطيع هؤلاء المرضى التعافي من هذه الإضطرابات والتي تصل في عديد من الحالات إلى تعافٍ كامل يستطيع الفرد معه أن يعيش ويتكيف مع المجتمع بشكل فعال. وناشدت جميع الأسر التي تستطيع الخروج من ولاية الخرطوم إلى أماكن أكثر أمنًا أن تفعل ذلك وبصورة عاجلة.

أغلقت مستشفى التجاني الماحي التي تعد أكبر مستشفيات الطب النفسي في السودان أبوابها في الأسبوع الأول للحرب
أغلقت مستشفى التجاني الماحي التي تعد أكبر مستشفيات الطب النفسي في السودان أبوابها في الأسبوع الأول للحرب

 

وتضيف مي: "هذا لا ينفي أن للنزوح آثار سالبة أيضًا، ولكنه أخف وطأة من الجلوس تحت أصوات المقذوفات ورائحة البارود، وأنه يمكن لأسرة المريض أن يساعدوه في تخطي هذه العقبة والتأقلم مع المكان من جديد".

معاناة مضاعفة

وكان المتحدث باسم تجمع الصيادلة المهنيين صلاح الدين جعفر قد كشف في حديث لـ"الترا سودان"، عن محاولات انتحار وسط المرضى النفسيين في السودان لعدم حصولهم على الأدوية. وأكد أن الأدوية غير متوفرة في الصيدليات.

وكانت إدارة مستشفى التجاني الماحي قد ذكرت بيان سابق لها أن قوات الدعم السريع احتلت المستشفى وتمركزت فيه بعد تهديد أفراد الحراسة بالقتل. وقال البيان إن المستشفى تعرض للنهب والتكسير والسرقة.

المديرة العامة لمستشفى التجاني الماحي للأمراض النفسية لـ"الترا سودان": المستشفى خارج الخدمة منذ الأسبوع الأول من اندلاع الحرب بالخرطوم

وأوضحت المديرة العامة لمستشفى التجاني الماحي للأمراض النفسية الدكتورة مهجة محمد إبراهيم لـ"الترا سودان"، أن المستشفى خارج الخدمة منذ الأسبوع الأول من اندلاع الحرب بالخرطوم، لافتةً إلى أن الوضع دفع الإدارة إلى السماح لجميع المرضى بالخروج من المستشفى.

وتضاعف الحرب الدائرة في السودان معاناة المرضى النفسيين، وتجعلهم أكثر عرضة للانتكاسات في ظل هشاشة النظام الصحي وانهياره في بعض المناطق، فيما تعاني كثير من الأسر من أجل توفير الأدوية التي من شأنها أن تحافظ على استقرار أبنائهم، الأمر الذي يحتم على القائمين على أمر الصحة في البلاد اتخاذ خطوات سريعة وفعالة من أجل تقديم المساعدات الناجعة لهم.