29-ديسمبر-2020

تعبيرية (Getty)

بالرغم من أن تعداد السكّان في السودان لا يتعدى (40) مليون نسمة، إلا أنه حلّ ثانيًا من حيث ترتيبه في تعداد حالات الانتحار بين مواطنيه -بفرق بسيط عن مصر بحوالي (600) حالة عن الدولة التي يقارب تعداد سكانها المئة مليون نسمة، حيث بلغت أعداد حالات الانتحار في السودان في العام 2016 وحده (3,205) حالة بحسب تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية عن عدد حالات الانتحار في العالم في العام 2016، وهو آخر تقرير تصدره المنظمة العالمية بخصوص إحصاءات الانتحار في العالم.

د. علي بلدو: عدد مرتادي وطالبي العلاج النفسي والعقلي للعام 2016 في ولاية الخرطوم وحدها بلغ (16,880) حالة

ورغم العدد الكبير للحالات، تُشكِك الطبيبة والباحثة النفسية، ناهد محمد الحسن، في دقة إحصاءات المنظمة العالمية، وترجح أن العدد أكبر من ذلك بكثير.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة السودانية وحصاد 2020

تقول محمد الحسن في إفادة لـ"الترا سودان": "المعلومات المذكورة عن نسب الانتحار في التقرير بالنسبة للسودان غالبًا ما يكون مصدرها تقارير الشرطة الرسمية، لأن الذين يقضون بالانتحار قد ترصدهم المشارح فقط وليس المستشفيات، إلا إذا توفوا إثر محاولة انتحار داخل مستشفى بعد نقلهم لها، أو انتحروا داخل المستشفى".

وتضيف الطبيبة والباحثة النفسية: "انتحار المرضى النفسيين مثلًا قد يحدث أحيانًا داخل المستشفيات. وفي السودان في تقديري يتم التكتم على حالات كثيرة، تحت دوافع عديدة منها ما هو اجتماعي".

وبحسب الأخصائي النفسي الدكتور علي بلدو، في حوار صحفي، فإن إحصائية رسمية محلية، صادرة عن ولاية الصحة الخرطوم في العام 2016 تقول، إن عدد مرتادي وطالبي العلاج النفسي والعقلي في ولاية الخرطوم وحدها، دون ولايات السودان الأخرى، للعام 2016 بلغ (16,880) حالة.

ولا تبدو إحصائية وزارة الصحة الولائية أيضًا دقيقة، كونها تعتمد على الحالات الموثقة في المستشفيات الحكومية، حيث لا تتعدى المشافي النفسية في العاصمة الخرطوم ثلاثة مشافٍ، هي مستشفى التجاني الماحي بأمدرمان وطه بعشر بالخرطوم بحري.

وأما الثالثة فهي مصحة عبد العال الإدريسي ببحري، والتي خلقت جدلًا كبيرًا، كما لا يعتبرها كثير من العاملين في مجال الصحة النفسية والعقلية؛ مصحة نفسية، نسبة لطابعها الشرطي أكثر منه الطبي، والذي اتسمت به طوال عقود، وكون أن إدارتها تتبع مباشرة للشرطة.

وكشف تحقيق أجراه "الترا سودان" في نيسان/أبريل من العام الجاري، عن معاملات قاسية وأوضاع غير إنسانية يعانيها النزلاء بالمصحة الحكومية، تقدّم على إثره ناشطون بمذكرة إلى وزارة الداخلية، أسفرت عن قرار صدر من وزارة الداخلية في تموز/يوليو من العام الحالي، ينص على إنشاء قسم خاص بالنساء في المشفى الحكومي، نظرًا لما تلاقيه النساء، بصفة خاصة، من انتهاكات.

اقرأ/ي أيضًا: فتيات تحدين الإعاقة ودخلن مجالات "البيزنس"

بالعودة إلى تقرير وزارة الصحة الولائية عن عدد حالات طالبي العلاج النفسي، فالتقرير الصادر عن وزارة الصحة الاتحادية أهمل العيادات والمستشفيات الخاصة، التي يرتادها معظم طالبي العلاج النفسي والعقلي، والتي يفضلها طالبوا العلاج النفسي نظرًا إلى ضعف الخدمة والبيئة الصحية المتردية التي تقدمها المؤسسات الحكومية، لذا فإن معظم طالبي الخدمة النفسية يتوجهون للمراكز والعيادات الخاصة.

د. مروة محمد: الأوضاع الاقتصادية الخانقة كانت سببًا في زيادة عدد مرتادي المصحات والعيادات النفسية

وفي السياق، كشف طبيب عمل في وقتٍ سابق بمستشفى طه بعشر بالخرطوم بحري، فضل حجب اسمه، أن الطاقة الاستيعابية للمشفى لا تناسب مركز طبي صغير، بواقع عدد أسرة لا تتجاوز الأربعين.

وأضاف: "كنا كثيرًا ما نضطر إلى وصف العلاج المنزلي لحالات تستوجب المكوث والمراقبة بالمستشفى، لكن لعدم توفر الأسرة كنا نضطر لوصف العلاج المنزلي ما يعد مخالفة لبروتوكولات العلاج النفسي".

وفي جانب آخر، تؤكد الدكتورة مروة محمد، العاملة بالتدريس في كلية علم النفس بجامعة الأحفاد، إلى أن الأوضاع الاقتصادية الخانقة كانت سببًا في زيادة عدد مرتادي المصحات والعيادات النفسية منذ العام 2012، وارتفاع حدة انتشار الاضطرابات النفسية، كما أفادت في حديث لـ"الترا سودان".

كما أبدت المختصة النفسية استغرابها من عدم وجود الأدوية النفسية والعقلية تحت مظلة التأمين الصحي، مطالبة الجهات ذات الاختصاص بإيلاء الأدوية النفسية الاهتمام ذاته الذي توليه لقطاعات أخرى، منوهة إلى ندرة الدواء النفسي والعقلي وارتفاع أسعاره، مشيرة إلى أن بعض الأمراض العضوية الأخرى، كالضغط والسكري، يعود منشأها إلى أسباب نفسية وعصبية، كضغوط الحياة اليومية وارتفاع تكاليف المعيشة.

وبالنسبة لطالبي العلاج من إدمان الكحول والمخدرات من الشباب السودانيين، فإن الكلفة الباهظة لعلاج الإدمان وإعادة التأهيل تمثل إحدى العوائق التي تحرمهم من تلقي الخدمة.

وفي ظل عجز المؤسسات الحكومية عن تقديم هذه الخدمة بشكل ملائم لطبيعة العلاج المطلوب، نشطت المراكز الخاصة في السنوات الماضية لتقديم هذه الخدمة العلاجية، لكن مع تكاليف باهظة للغاية، فبحسب استطلاع لعدد المراكز العاملة بالمجال، قام به "الترا سودان"، فإن أقل تكلفة ليوم علاجي واحد تبلغ حوالي ثلاثة آلاف جنيه سوداني.

اقرأ/ي أيضًا: عام الموت.. أبرز السودانيين الراحلين في 2020

وبحسب مختصين عاملين بالمراكز الخاصة استطلعهم "الترا سودان"، فإن علاج حالات الإدمان يتطلب وضع المريض تحت الرعاية الطبية بأحد المؤسسات المتخصصة أسبوعًا واحدًا على الأقل. كما أظهر الاستطلاع أن بعض المراكز تطالب بمدة (40) يومًا كحدٍ أدنى لاستقبال المريض وإعادة تأهيله.

 يضطر العديد من أهالي وذوي المرضى، إما لتجاهل المرض، أو الركون إلى التفاسير الغيبية

تبدو أوضاع الصحة النفسية في العاصمة الخرطوم أقل كارثية لمن هم في الولايات، فمع عدم وجود مستشفيات حكومية مختصة في العلاج النفسي في السودان، فهناك أيضًا مشاكل الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي، مما يضطر العديد من أهالي وذوي المرضى، إما لتجاهل المرض، أو الركون إلى التفاسير الغيبية هربًا من الوصمة بالخلل النفسي والعقلي، مرجعين ذلك إلى تفاسير غيبية كمعتقدات العين والحسد، كما أن طلب العلاج لدى الشيوخ في الخلوات، كشف عن ممارسات غير إنسانية لمرتادي خلوات الشيوخ، تفاقم من المرض النفسي، بل أدت في أحيان عديدة إلى الوفاة.

اقرأ/ي أيضًا

السودان يودع عام الكوارث.. وكورونا أزمة ملازمة للعام الجديد

"وقفن على الشط كالذكريات".. الهجرة ما بين الوطن والمنفى