12-أغسطس-2022
جدارية

إحدى جداريات ثورة ديسمبر المجيدة

الفن كل منحى جمالي، بدءًا من الشعر وليس انتهاءً بالجداريات والسينما. ويدخل الفن في جميع مناحي الحياة، ويعطي مجالًا واسعًا لدراسة تاريخ الإنسانية ومعرفة مراحل تطورها. في التقرير التالي، نتتبع قصة الفن كإرث إنساني، في السياقين السوداني والعالمي.

السياق السوداني

لعب الفن أدوارًا مهمة في تاريخ السودان، وساهم في تشكيل الحضارة السودانية، وميزتها عن بقية الشعوب، عبر إبداع فني عبّرت به الشعوب السودانية عن ثقافتها وقيمها وإرثها التاريخي.

تشير لبنى صالح إلى "المردوم" كنموذج حي يحمل قيم الشجاعة والجود والكرم الذي يتميز به أهل كردفان

وحسب لبنى عابدين صالح المهتمة بالثقافة والفنون، فالفن "الاجتماعي" يضطلع بدورٍ "مهم" في المجتمع. وتقول إنه يفسر التحديات والصراعات التي عاشها المجتمع عبر التاريخ، ويشهد على التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي مر بها. وتتابع: "الذاكرة الفنية خالدة، تعبر عن الأفكار والثقافة، وتشكّل الحياة، وتفسر التاريخ".

وقالت لبنى في حديثها لـ"الترا سودان" عن الفن الاجتماعي في السياق السوداني، إنه "تجسيد وتصوير للواقع وإحياء للماضي". وأضافت: "عن طريق الفن يعبر المجتمع عن ثقافته ونمط حياته، لافتةً إلى دوره في تشكيل "وجدان مشترك بين شعوب السودان" وقدرته على "اختراق الثقافات المختلفة وتذويبها".

https://t.me/ultrasudan

وتمضي عابدين قائلة إن الفن بأنواعه المختلفة (من الشعر والأدب والغناء والمسرح والموسيقى والرواية والفن الصامت) يعبر عن الإنسان السوداني وظروفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي نشأ فيها. وتضيف لـ"الترا سودان" أن الفن يعبر عن ثقافة الشعب وإرثه، مشيرةً إلى المنحوتات الأثرية التي تدل على حقب تاريخية للمجتمع "شكلت ثقافته ووجدانه".

وعن فن الغناء والرقص، تشير لبنى إلى "المردوم" كنموذج "حي" يحمل قيم الشجاعة والجود والكرم الذي يتميز به أهل كردفان ويدل عليهم.

والفن الصامت -وفقًا للبنى صالح- كالجداريات التي استخدمت بكثافة في ثورة ديسمبر، تدل على "حقب سياسية وتحولات اجتماعية وتغيير في الأفكار عبر الثورة وحفظ لماهيتها".

وترى لبنى الفن تصويرًا للواقع ومؤشرًا لمزاج المجتمع في حقبة من الحقب. وتقول إنه "سلوك ومنهج حياة وإرث يدل على أمجاد الأمة وماضيها وثوراتها وملاحمها"، لافتةً إلى ما جسدته "الملاحم التي كتبت عن الثورة المهدية" حول تاريخ الأجداد ونضالاتهم.

وتضع لبنى الفن في مكانة "سامية"، وتقول إننا "نستشف عبره ذواتنا وإنتاجنا ومعرفتنا". وتضيف: "الفن ليس أداة للترفيه فحسب، بل محاولة من الفنانين لحل قضايا مجتمعاتهم والارتقاء بها والمساهمة في عملية التغيير".

إرث إنساني

لم يعد الفن محصورًا في اللوحة الجميلة أو المقطوعة الموسيقية العذبة، إنما يدخل في تشكيل مجمل حياة الإنسان المعاصرة. وقبلها حافظت الإنسانية على الموروثات الجمالية في المباني والطعام، كإرث إنساني يدل على حضارتها وهويتها.

في هذا الصدد، يقول الفنان التشكيلي والباحث في فلسفة الفنون الجميلة محمد عوض إن للفن أدوارًا متنوعة، منها ما هو تثقيفي واجتماعي وجمالي وفكري، ومنها ما هو مرتبط بالجمال في ذاته – على حد قوله. ويضيف في حديثه لـ"الترا سودان" أن الفن يدخل كقوة إدراكية ضمن مبحث فلسفة الحق والجمال، وذو طبيعة معنوية مرتبطة بالإنسان. ويدخل الفن -وفقًا لعوض- فيما يسميه "المجال الاستخداماتي" مثل تزيين الأدوات والمنازل، بالإضافة إلى الجانبين التربوي والتعليمي.

وحسب محمد عوض، يرتقى الفن بالذائقة الجمالية لدى الإنسان، ليستخدمها في أخلاقه. ويوضح أن كلمة "مجاملة" تحمل في طياتها "سلوكًا أخلاقيًا للتعامل بالجمال". وفي التفسيرات النفسية، يعد التذوق نشاطًا نفسيًا أو ما يمكن أن نطلق عليه "الاستجابة الجمالية" – وفقًا لعوض.

ويتابع عوض حديثه لـ"التر سودان" قائلًا إن الفن يعد من "أرقى القوى الإدراكية التي تقود الإنسان دون سواه من المخلوقات وأبرز الأنشطة التي ميزت الإنسان في الرقي"، لافتًا إلى أنه "يرتقي بالغريزة وما فوق الشهوات".

وفسّر حديثه بأن الإنسان يتفنن في الطهي والتركيب الخيالي للمأكولات (مثل البيتزا). وبالنسبة إلى عوض لم تعد القضية "مسألة إشباع للبطن" وإنما يشكل الطعام صورة أقرب إلى "المقطوعات الموسيقية"، وترتبط الشعوب بأنواع من الأطعمة تعود إلى مئات السنين وتتوارثها الأجيال كموروثٍ "جمالي". وحسب ما يرى محمد عوض، استطاع الإنسان أن يحوّل النشاط الغريزي للطعام إلى "ذائقة جمالية".

وأردف بقوله: "لم تعد ممارسة الفن والجمال مؤطرة في اللوحة أو الموسيقى، وإنما انعكست في جميع مناحي الحياة، مثل المباني وفن العمارة". ويلفت عوض إلى علاقة الجمال بالقيم الدينية، مستدلًا بالآية الكريمة: (فاصبر صبرًا جميلًا)، منبهًا إلى وصف الله -عز وجل- للصبر بـ"الجمال" أي بمعنى ألا يكون "سلوكًا يمارس على مضض وإنما يجمّل بالبواعث النفسية مثل الرضا وغيره من المشاعر الجميلة".

الفن والمجتمع

يشير بروفيسور الفلسفة بكليتي الآداب والفنون الجميلة بجامعة النيلين مصطفى عبده إلى أن الفن يعد "مقياسًا حضاريًا" للشعوب، لافتًا إلى أن تاريخ الشعوب يقاس من خلال الفنون.

 وحسب البروفيسور مصطفى، فالفن تعبيرٌ عن الحضارة والتواصل الإنساني، ويعبر من خلاله الإنسان عن واقعه بالإنتاج الفني في الموسيقى والعمارة.

ويقول البروفيسور في حديثه لـ"الترا سودان" إن التطور الإنساني حدث بالتعمير في مجالات الفنون. ويضيف: "من خلال الفن بنى الإنسان الراكوبة وناطحات السحاب، وعمارة الإنسان هي أداة لتطور البشرية، ولذلك يدخل الفن في مجال الهندسة والعمارة".

وأوضح البروفيسور أن المجتمع الإنساني يعيش في جماعات وليس فرادى. ويشرح قائلًا: "الإنسان يعيش في منزل ويعمل بالزراعة، وطور أدوات جمالية مثل الطورية والمنجل لممارسة تلك الأعمال". ويتابع: "الفن يجمع الناس لمواجهة الواقع، وهو أسلوب حياة". ولو لم يستخدم الإنسان الأول الفن لما تعرفنا عليه ولا على مراحل تطوره – على ما يقول البروفيسور مصطفى عبده.

مصطفى عبده: لو لم يستخدم الإنسان الأول الفن لما تعرفنا عليه ولا على مراحل تطوره

ويشير مصطفى عبده إلى تعارض الفن مع الديكتاتورية لجهة أنه أداة للتعبير عن النفس. وزاد: "كل إنسان هو فنان، لكن لا يملك بالضرورة الأدوات". وبيّن أن الفنان يقود المجتمعات إلى "الحياة النافعة"، لافتًا إلى أن الفن "سلاح ذو حدين"، وداعيًا إلى استخدام "الجانب الإيجابي منه".