مرّت العلاقة بين الخرطوم وأديس أبابا بكثير من المنعرجات خلال السنوات القليلة الماضية، قبل أن توضع مؤخرًا على جادة التفاهم عبر عدة آليات متنوعة بما في ذلك "دبلوماسية القمة" من خلال اللقاءات المباشرة التي انعقدت بين رئيس مجلس السيادة في السودان ورئيس الوزراء الإثيوبي في عدة مناسبات وفعاليات إقليمية.
يتمتع السودان وإثيوبيا بإمكانيات اقتصادية كبيرة قابلة للتعظيم وتبادل المنافع إذا ما سارا قُدمًا في طريق التعاون والتكامل
عوامل التصدع
اختلاف الرؤى حول ملف سد "النهضة" كان المؤشر الأبرز في "ثيرموميتر" العلاقة الثنائية بين البلدين، إذ طرأ بعض التحول على الموقف السوداني من المشروع الإثيوبي العملاق، وذلك بسبب الخلاف حول نقاط ذات صلة بمنهجية التفاوض وآجاله اللا متناهية وبعض النقاط الفنية المتعلقة بكيفية ملء السد وتشغيله، فضلًا عن عدم استساغة طريقة فرض الأمر الواقع التي انتهجها الجانب الإثيوبي في إدارة الملف والتعامل مع دولتي المصب (مصر والسودان) خاصةً فيما يلي المضي قدمًا وبصورة أحادية في ملء بحيرة السد وبدء التوليد الكهربائي قبل توصل الأطراف المعنية إلى اتفاق نهائي ملزم معزز بضمانات دولية فاعلة.
وفي غضون ذلك، طفت على السطح عوامل أخرى زادت من تعكير الأجواء بين الخرطوم وأديس أبابا؛ إذ امتدت آثار الصراع العسكري بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير شعب التيغراي (TPLF) إلى الداخل السوداني من خلال موجات النزوح التي بدأت بالوفود إلى الأراضي السودانية المتاخمة لإثيوبيا، كما أدى اضطراب الأوضاع في تلك المناطق إلى تعدي بعض المليشيات الإثيوبية المحلية على مزارعين وجنود سودانيين، مما دفع الجيش السوداني إلى الانفتاح على أراضٍ بمنطقة "الفشقة" تدخل ضمن الحدود السودانية بحسب اتفاقية 1902 التي أكّد الجانب الإثيوبي الالتزام بها في 1955 و1972م، إلا أن تلك الأراضي ظلت لسنين طويلة تحت سيطرة ميلشيات إثيوبية بوضع اليد والتوسع الزراعي فيها، وبذلك أصبحنا أمام خلاف حدودي بين البلدين وتصريحات رسمية متبادلة تصدر عن كلا الجانبين يؤكد فيها كل طرف أحقيته بالأراضي محل النزاع، وصولًا إلى اتهامات إثيوبية مباشرة للجانب السوداني بدعم مقاتلي التيغراي.
لقاءات وتفاهمات
في تموز/يوليو الماضي وبعد أيام قليلة من توتر حدودي بين البلدين، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عن لقاء جمعه بالجنرال عبدالفتاح البرهان في العاصمة الكينية نيروبي على هامش قمة منظمة "إيقاد". وأكد آبي أحمد في تغريدة على حسابه الرسمي بتويتر أن كلاهما أقرّا بأن لدى البلدين العديد من عناصر التعاون للعمل عليها بـ"سلام". وأردف: "علاقاتنا المشتركة تتجاوز أي نزاع، كلانا ملتزم الحوار والحل السلمي للقضايا العالقة".
تكرر اللقاء بين الرجلين في تشرين الأول/أكتوبر المنصرم في جلسة مباحثات موسعة على هامش فعاليات منتدى "تانا" حول قضايا السلم والأمن في أفريقيا والذي التأم بمدينة "بحر دار" الإثيوبية. وشهد ذلك اللقاء اختراقًا أكبر نحو تحسن العلاقات بين البلدين. وصرّح رئيس مجلس السيادة السوداني بإمكانية التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا الفنية لسد النهضة. ولفت البرهان إلى أن القضايا العالقة بين الدولتين يمكن حلها "عبر الحوار"، مؤكدًا حرص السودان على الاحتفاظ بـ"علاقات وثيقة" مع الجارة إثيوبيا، كما رحّب البرهان بمقترح من رئيس الوزراء الإثيوبي بشأن قيام تكامل اقتصادي بين إثيوبيا والسودان، وبالإضافة إلى ذلك فقد أكد الجانبان ضرورة معالجة جميع المشكلات الحدودية بـ"الطرق السلمية" عبر اللجان الفنية المتخصصة.
وفي السياق نفسه، زار مدير جهاز المخابرات العامة السوداني الفريق أول أمن أحمد إبراهيم مفضل رئاسة جهاز المخابرات والأمن الوطني الإثيوبي. وبحث مع نظيره الإثيوبي تمسقن طرونه التحديات التي تواجه البلدين. وأكّد مفضل تمسّك بلاده بحدودها المعترف بها دوليًا وفقًا لترسيم 1902م، كما نفى نفيًا قاطعًا وجود أي معسكرات لجبهة تحرير تيغراي داخل الأراضي السودانية.
على الصعيد الدبلوماسي، رحّبت الخارجية السودانية باتفاق السلام الموقع مؤخرًا في جنوب أفريقيا بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي، كما اتفق البلدان –في لقاء لنائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو مع وزير الخارجية الإثيوبي دمقي مكونن– على معالجة قضايا سد النهضة والحدود بطريقة سلمية.
آفاق التعاون
فضلًا عن التنسيق لتعزيز الثِقل السياسي والأمني لكليهما، يتمتع البلدان الجاران بإمكانيات اقتصادية كبيرة قابلة للتعظيم وتبادل المنافع إذا ما سارا قُدمًا في طريق التعاون والتكامل. وبإمكان السودان أن يشكل أحد المنافذ البحرية المهمة لحركة التجارة من وإلى جارته الحبيسة ذات الكثافة السكانية العالية، بما في ذلك استيراد المشتقات البترولية، خاصةً وأن أديس أبابا شرعت في تطبيق إستراتيجية جديدة بتقليل اعتمادها على الموانئ الجيبوتية والبحث عن بدائل في المنطقة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى تخصيص هيئة الموانئ السودانية منطقةً لوجستية للبضائع الإثيوبية بمساحة (875) ألف متر. وبالمقابل فإن السودان الذي يواجه عجزًا مريعًا في الإمداد الكهربائي يربطه خط بإثيوبيا تبلغ سعته الكلية (200) ميغاواط، كما تدرس الخرطوم إنشاء خط ثانٍ للربط الكهربائي مع إثيوبيا بسعة كلّية تبلغ ثلاثة آلاف ميغاواط، وجهد (500) كيلو فولت، يُنَفَّذ على ثلاث مراحل.
وبحسب المعلومات المتداولة فإن الخرطوم ستحصل على الكهرباء الإثيوبية من سد النهضة بأسعار تفضيلية. وإلى جانب ذلك فإن هناك الكثير من المجالات الواعدة الأخرى التي يمكن للجانبين تحقيق مزيد من التعاون بها، مثل الخبرة الإثيوبية المشهود لها على المستويين القاري والدولي في مجال الطيران المدني وإدارة المطارات، كما بإمكان إثيوبيا –عبر ترتيبات فنية مع الجانب السوداني– توفير الكثير من الأيدي العاملة –الدائمة والموسمية– التي تتطلبها خطط التوسع الاقتصادي في السودان، خاصةً فيما يلي النواحي الحرفية والزراعية ومواسم الحصاد.
للسودان وإثيوبيا مكانةً ودورًا محوريًا قابلًا للتعزيز في الإقليم والقارة ولكن تحقيقه مشروط بحدوث استقرار سياسي داخلي
حاصل القول، أن للسودان وإثيوبيا مكانةً ودورًا محوريًا قابلًا للتعزيز في الإقليم والقارة ككل، إلا أن تحقيقه مشروط بحدوث استقرار سياسي داخلي في كلا البلدين، ومن ثم التوجه نحو التعاون الثنائي في المجالات آنفة الذكر وغيرها مما تُقره وتتوافق عليه أجهزة الدولتين والفعاليات المجتمعية والشعبية في أديس أبابا والخرطوم.