12-مارس-2016

موزعو الصحف في الخرطوم 1950 (Getty

في مكاتب باردة وسيئة التهوية، تضع الصحف السودانية أقسامها الفنية، يجلس أمام شاشات الكمبيوتر فيها، المصممون وفنيو الصف الإلكتروني، ومصححو اللغة، لـ"يطبخوا" عدد الغد من الصحيفة. وبين هؤلاء الأخيرين، لا يكاد قسم فني، يخلو من أديب أو اثنين، شعراء وروائيين ونقّاد، يُصلحون لغة محطَّمة، يكتب بها صحفيون يتحركون فوق أشواك المحاذير. لكن، ما الذي أتى بهم إلى هنا؟

 بين عامي 2005-2010 استوعبت الصحف السودانية عددًا من الأدباء للعمل في ملاحقها الثقافية

لبعض الوقت، بين عامي 2005-2010؛ استوعبت الصحف السودانية عددًا من الأدباء للعمل في ملاحقها الثقافية، التي شهدت ازدهارًا في تلك الفترة، متنفِّسةً هواء اتفاقية السلام الشامل. لكن مع تدهور أوضاع الصحف، مثل كل شيء آخر، بعد انفصال جنوب السودان، ومن ثم ضمور الملاحق الثقافية وتغيّر شروط العمل وفق المستجدات الاقتصادية والسياسية؛ تبعثر كثير من الأدباء خارج الأقسام الثقافية الملغاة لاحقًا، ليتم توظيفهم في مهمات التحرير أحيانًا، والتدقيق اللغوي في الغالب.

اقرأ/ي أيضًا: صحف السودان.. ما يريده الأمن!

ثمة تساؤلات عن عمل الأدباء في التدقيق اللغوي للصحف، أوضحها التساؤل عن لماذا يغلِّب الأديب مجال التصحيح على حساب خيارات أخرى للعمل؟ لا سيما مع معرفتنا أن أكثر الأدباء-المصححين هؤلاء، هم من خريجي كليات بعيدة عن الأدب، مثل كليات الهندسة والبيئة والاقتصاد. وهو ما يجرُّ إلى تساؤل آخر عن تفضيل أرباب العمل توظيفهم على حساب خريجي اللغة العربية، مثلًا، في كثير من الأحيان.

ربما هو "خيار مفروض وليس اختيارًا" كما يقول الروائي منصور الصويّم. منصور الذي عمل لسنوات مصححًا في عدة صحف، يظن أن هناك "عدم اعتراف" بأهلية الأديب في العمل المهني، خصوصًا في الصحافة، وهو ما يقوده إلى الجلوس في كابينة خلفية غير مرئية، كالتصحيح.

حديث منصور، يفتح بابًا طُرق من قبل، عن وضع الأدباء كمحررين ثقافيين في الصحف، إذ ثمة ما يشبه اتفاقًا بينهم، على أنهم يعدون "غرباء" إلى حدٍّ ما، حتى بالنسبة إلى رؤساء التحرير، ناهيك عن بقية الصحفيين الآتين إلى الصحف من كليات الإعلام، لكون أولئك الأدباء، على عكسهم، قادمين من حقول معرفية أخرى.

ظلت الصحافة في السودان هي خيار العمل المتاح للمشتغلين بالأدب

الشاعر عبد الرحيم حسن، الذي عمل -مثل أكثر المصححين الأدباء اليوم- محررًا لعدة ملفات ثقافية في الصحف، ثم تحول إلى التصحيح؛ يقول لـ"ألترا صوت": "عملت بالصحافة الثقافية لسنوات، كنت أشعر أنها مسؤوليتي الشخصية. دأبت على وضع تصورات لملاحق ثقافية وملفات وإنجازها، ما تقاضيته لقاء ذلك العمل لم يكن قريبًا حتى من الجهد الذي بذلته، بل كان أقل من أجور زملائي في أقسام الأخبار والسياسة والتحقيقات".

اقرأ/ي أيضًا: اقتلوا هاري بوتر!

عبد الرحيم زهد في التحرير، وتحول إلى التصحيح لمعرفته وشغفه بالأبجدية، كما يقول، إضافة إلى أنها مهنة قريبة من الكتابة. "أعمل ساعات محددة في اليوم بأجر محدد"، يوضح عبد الرحيم.

قد يكون ما أتى بأدباء كثر إلى الصحافة، هو نوع من "الحب" للمهنة، قبل أن تتنكر الصحف لأكثرهم. وربما كان ذلك "الحب" هو ما جعل البعض يبقى داخل المؤسسات الصحفية وإن في مكان منزوٍ، مثل القسم الفني. فتاريخيًا، كما يرينا منصور الصويم، ظلت الصحافة في السودان هي خيار العمل المتاح للمشتغلين بالأدب، في بلدٍ "فقير حد البؤس" في مجالات السينما والدراما والمسرح التي توفر الكتابة لها مالًا معتبرًا للأدباء، بحسب ما يصف منتصر أحمد النور، وهو إضافة إلى كونه كاتبًا، عمل كبير مصححين لعدد من السنوات.

لا يعتاش الأديب في السودان -إلا في ما ندر- على ما ينتجه من كتب، فالكتاب، برأي منتصر، خاصة أجناس الأدب "لا قيمة له، وبدلًا من أن يكون سببًا للدخل والغنى فإنه لا بد للأديب أن ينفق على الكتاب.. فالكتاب عالة على مؤلفه وليس مورد دخل لصاحبه". 

هذه المعادلة، ربما كانت أحد الأسباب في أن يكون العمل كصحفيين، هو الخيار المتاح أمام عدد من الأدباء، والمجال الأقرب إليهم، فهي "كتابة" في النهاية. إلا أن حشرهم في مهمة إصلاح ما يخطئ فيه الآخرون، بدلًا من توظيفهم ضمن طاقم العمل التحريري، يظل يحمل علامات استفهام بلا حصر، فما المانع، مثلًا، من توظيف من تعترف بأهليته حدَّ أن يقوِّم عمل الصحفيين؛ كصحفي؟ ولماذا كانت صفحات الثقافة في الصحف هي الضحية الأولى بلا تردد لعلاج الكبوات المالية التي تمر بها الصحف، إن كان ذلك بقلة المدفوع لمحرريها مقارنة بغيرهم، أو حتى بتقليص عددهم أو تقليص مساحات صفحاتهم، أو حتى بإلغاء هذا الصفحات تمامًا، كما فعلت الكثير من الصحف في السودان؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنا مع حصار بلادي!

أرائحة موت في الأفق؟