البوابات الكبيرة، للدخول في تفسير حالة الشاعر السر دوليب، هي التفاؤل، والأمل، والتسامح. إذ كان منذ انطلاقة تجربته في كتابة الأغنيات، نافذًا منها. وله السبق في تأسيس انعطافة كبيرةٍ في الشعر الغنائي السوداني، وإنقاذه من حالات البُكائية على فقدان الحبيبة، والاستغراق في حالات الحزائنية. أو على أفضل الأحوال تمنّي ملاقاتها مجددًا. فانطلق دوليب منذ أول خُطواته في بثّ حالةٍ من الفرحة والأمل والتفاؤل في شعر السودانيين.
أسلم الشاعر السر دوليب، الروح يوم أمس. مُخلّفًا سيرةً طيبةً عند السودانيين، وعند الأكاديميين والمغنيين
بعد مسيرةٍ حافلةٍ من كتابة الشعر الغنائي المتفرّد، والتخصص في علم النفس، وتدريسه في الجامعات السودانية، أسلم الشاعر السر دوليب، الروح يوم أمس. مُخلّفًا سيرةً طيبةً عند السودانيين، وعند الأكاديميين، وعند جمهرة المغنيين، ومحبي الغناء. أسلم السر دوليب الروح، بعد معاناةٍ استطالت مع المرض؛ لم يحتملها قلبه الأبيض الكبير، ولا روحه المرحة الرفرافةِ الفائضة بحب الحياة والأمل فيها. والقناعة بأنّ أضواء كثيرةً دائمًا في آخر أي نفقٍ من أنفاق الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: أبوداؤود.. يا من كسانا شجون
عرف النّاسُ السر دوليب، واسمه الحقيقي هو تاج السر محمد المهدي، عبر مقدّمات مذيعي الإذاعة السودانية، منوّهين إلى أنّ هذه الأغنية من تأليف الشاعر السر دوليب. لكن سيرته مع الشعر، بدأتْ باكرًا، كما يقول العارفون لتجربته الشعرية. فقد بدأتْ وهو طالبٌ بالمرحلة الثانوية. كتب وقتها قصيدةً عادية، أسماها "اللون الخمري"، وعنونها بغير كثير عناء، عبر بريد الإذاعة السودانية إلى الفنان عثمان الشفيع. ولم يمضِ كثيرُ وقتٍ على البريد، إلا والشفيع يصدح بها، ويسجّلها للإذاعة السودانية. كان ذلك قبل أنْ يلتقيا، وقبل أنْ يعرف النّاسُ شاعرًا، بشعرٍ مكتمل الشيب –فيما بعد- اسمه السر دوليب.
ويزيد العارفون بتاريخ وسيرة السر دوليب، أنّه من أسرةٍ دينيةٍ، ومهتمة بالعلم. فجدّه "محمد ود دوليب" صاحب الاسم، مذكورٌ في طبقات ود ضيف الله، كأحد المتدينين السودانيين. وتُروى في سبب التسمية قصةٌ لا تخلو من تصوفٍ، ومن طُرفةٍ هي الأخرى. إذ تعطلّت إحدى السواقي، وتوقفتْ عن الدوران، وبالتالي، تأثّر الناس والبهائم والزرعُ بالعطش. فاستنجد أهل القرية بجد السر دوليب. فما كان منه إلا أن قرأ عليها شيئًا من الأسرار، ثم أمرها أنْ "دولبي"، أي تحرّكي، ودوري. فما كان منها إلا أنْ دارتْ وتحركت. ومن هذه الحادثة اكتسب جد السر اسم "دوليب".
أما والد السر دوليب، فهو شيخ ومعلّم للقرآن. بل إنّ السر نفسه، درس مراحله الباكرة في خلوة والده. وكذا شقيقه الأكبر، والذي يُعد أحد أوائل خريجي كلية غردون التذكارية، قبل تحوّلها إلى جامعة الخرطوم. والسر دوليب نفسه، تدرّج في سلك التعليم، طالبًا، ثم معلّمًا فيما بعد. حتى تخرجه من كلية علم النفس، في الجامعة الأمريكية ببيروت، ونيله فيما بعد درجتي الماجستير والدكتوراه.
وعلى سيرة الجامعة الأمريكية ببيروت، فإنّ أول قصيدةٍ تغنى بها المغني محمد ميرغني، من تأليف السر دوليب، هي "أنا والأشواق"، والتي كتبها دوليب مطالع ستينيات القرن الماضي، بعد أنْ أودع فيها، وهو في لبنان، مشاعره بالبُعد عن أهله، ومَنْ يُحب. وسكب فيها حنينًا دافقًا، لحبيبٍ لم يُسميه. والأغنية في مبناها وشكلها رسالةُ إلى ذاك الحبيب المتخيّل، الذي يتمنى أنْ تصله رسالته، و"تجدهُ في أحلى حال"، العبارة التي يكتبها السودانيون المغتربين في خطاباتهم الورقية، قبل أنْ تقضي عليها ثورة السوشيال ميديا.
"أنا والأشواق"، هي أول تعاونٍ بين السر دوليب الشاعر، ومحمد ميرغني المغني. وهي واحدة من أنصع وأنجح تجارب الثنائيات في الغناء السوداني، فترة الستينيات. صحيح أنّها لم تُثمر كثير أغنيات، لكنّ أيّ واحدةٍ منهن، تقفُ دليلًا وعلامةً على النجاح. بل إنّ المتابعين لمسيرة المغني محمد ميرغني، وبإقرارهِ هو في أكثر من مكانٍ، فقد دان بالكثير من الفضل في تثيبت اقدامه، وهو في بداية طريقه الغنائي، للأغنيات التي كتبها له السر دوليب.
فقد تعاونا فيما بعد، وأنتجا "مين فكّرك ياحبيب"، و"لو قِدرتْ تغيب، غيب عليّ"، و"ما بتقدر تتوب، يا قلبي المودّر"، وبالطبع "أنا والأشواق". وصحيح أنّها ليستْ بالأغنيات الكثيرة، لكن أي واحدةٍ منهن كُتب لها النجاح. وبالرغم من أنّ السر دوليب، تغنى آخرون بكلماته، مثل محمد وردي، عثمان حسين، أحمد فرح، سيد خليفة، أحمد المصطفى، ثنائي العاصمة، وغيرهم، إلا أنّ ارتباطه بمحمد ميرغني ظلّ هو الأرسخ.
ما يُميّزُ تجربة الشاعر السر دوليب، بجانب أغنيات التفاؤل والأمل، فأشعارهُ تتميّزُ بالرقّة والعذوبة، التي تأخذ من طبعه وتعامله مع الآخرين في الحياة العادية. كما تتسم تجربته بمشاعر الإقبال على الحياة، وعدم الاستغراق في الأحزان، وانكسارات العُشّاق، التي كستْ عشرات الأغنيات السودانية في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وللتأكيد، فقد كتب دوليب أغنيات تفيض بمحبة الحياة والتسامح والتفاؤل مثل مسامحك يا حبيبي، ما بصدّقكم، داوم على حبي، طير الجنّة، هديّة.
سيمر زمنٌ طويلٌ على السودانيين، يذكرون فيه شاعرًا أشيب الرأس، اسمه السر دوليب، ملأ أيامهم بالمحبة
شيء آخر يُميّز تجربة الشاعر السر دوليب الغنائية، أنّه كتب أغنيات خفيفة في معناها، ورشيقة في كلماتها، مما يُجبر ملحّنها أنْ يختار لها لحنًا لا يبتعدُ بها عن هذه الأجواء. وبالتالي فإنّ أغنياته في غالبها خفيفة. وهو ما لامسها مع تجربة "الكَسْرَة". وهي الأغنية الخفيفة، ولا تُغنى منفردةً، بل تكون لاحقةً مباشرةً لأغنية أخرى. في حالة السر دوليب، فإنّ هذه الأغنيات الخفيفة "الكَسْرَة"، أخذتْ حظها، واستقامتْ أغنية مستقلةً، وليستْ ملحقةً بأغنيات أخرى.
وعليه، فإنّ زمنًا طويلًا، سيمُر على السودانيين، سيذكرون فيه شاعرًا أشيب الرأس، اسمه السر دوليب، ملأ أيامهم بالمحبة، والتفاؤل، والفرح، والتسامح.
اقرأ/ي أيضًا