29-أغسطس-2020

خليل إسماعيل

نهاية آب/أغسطس من كل سنة، تستدعي الذاكرة بشروق، ذكرى رحيل أحد عصافير الغناء السوداني: خليل إسماعيل. المغني صاحب الصيت والصوت العنيد والأغنيات الطروبة، والاحتفاء حتى من رفقائه، حيث وصل أن يسبغوا عليه لقب: مطرب الفنانين، لأنهم رأوا فيه مطربًا لهم، يمتعهم بجميل أغنياته، وجمائل طبقاته الصوتية. لكنه رفض اللقب، فأسبغ على نفسه لقب: كبير مظاليم الإذاعة.

في أواخر آب/أغسطس من العام 2007، أغمض خليل إسماعيل، عينه لآخر مرة، وودع الدنيا تاركًا خلفه محبةً عند الكثيرين

في الثاني والعشرين من آب/أغسطس من العام 2007، أغمض خليل إسماعيل، عينه لآخر مرة، وودع الدنيا تاركًا خلفه محبةً عند الكثيرين، ورصيدًا ليس بالكثير، لكن أي واحدةٍ من أغنياته، تمثل التفاتة، وعلامة. فقد كان منذ أول خطواته في طريق الغناء، كثير الحدب على التجديد، وعلى التفرد. ليس أول خطواته في طريق الغناء لوحدها، وإنما منذ انخراطه أول حياته في مهنة البناء، كان يضع في باله أن له حظًا في الغناء.

اقرأ/ي أيضًا: بروفايل الوداع.. وردة ماركيز تُحلِّق إلى الأبدية

فلم تكل قدميه الذهاب والجيئة من وإلى الإذاعة، لاعتماد صوته، وتسجيل أولى أغنياته. على الرغم مما لاقى من لجنة إجازة الأصوات بالإذاعة السودانية من تعنت. كان خليل كثير القناعة بجمال صوته وحسن أدائه وكبير تطلعه لمستقبل الغناء.

اسمه مكتملًا هو: خليل إسماعيل موسى عشايا، من مواليد مدينة الأبيض، بشمال كردفان، في العام 1943. نشأ فيها، ثم لما انتوى نشدان السماع لصوته، والغناء، اتجه إلى أم درمان، بداية الستينات. ويذكر المجايلون والعارفون لتجربته أن قدماه حفيتا في طريق الإذاعة، هو وآخرين لاقوا ذات المشوار اليومي العنيد إلى الإذاعة.

من الذين حفيت أقدامهم في الطريق للإذاعة في بداية تجربتهم: محمد الأمين، وأبوعركي البخيت، فآواهم الاثنين المغني صالح الضي، في بيته البسيط القريب من الإذاعة. وهو ما ألف بينهم إلفةً امتدت لخمسة عقودٍ فيما بعد، وحتى أخريات أيام خليل. وتتبدى هذه الألفة والمعرفة الصادقة عند أبوعركي البخيت، الذي جاوره في السكن، وفي التفقد المستمر، وفي المحبة المتدفقة، وفي الحديث الممتليء بالشجن عنه بعد وفاته. وكذا عند محمد الأمين، الذي ما إن يحاول ترديد أغنية لخليل إسماعيل، إلا ويمتلئ صوته بالنهنهات، وعيونه بالدمع.

وبجانب فرادة صوت خليل إسماعيل، ومقدرته على بعث الطرب عند سامعيه، فقد عرف عنه الظرف الشديد، وإلقاء الملح المباشرة والفورية. وهو ما ينم عن بديهةٍ حاضرةٍ، ونكتةٍ شديدة المفارقة. وهي واحدة من الصفات التي امتاز بها عن غيره من زملائه الفنانين. ويبدو أنها ما حببه عند زملائه الفنانين، فيسمعوا جميل أغنياته، وعذب صوته، وفي ذات الوقت قفشاته الحاضرة، التي يلقيها بلسانٍ حاد.

قدم خليل، عددًا ليس بالكثير من الأغنيات، أبرزها للشاعر محمد علي أبوقطاطي، الذي تميزت تجربته معه بالتفرد، ووصلت قمة هذه الثنائية في أغنية: الأماني العذبة. هذا بجانب أغنياتٍ أخرى: في مسيرك يالهِبيِّب، بسحروك وغيرهما. لكن هناك ثلاث محطاتٍ مهمة في تجربة المغني خليل إسماعيل، وأثرت فيها، وشكلتها.

أول هذه المحطات، هي مشاركته في ملحمة أكتوبر، في النصف الثاني من الستينات. وهي الملحمة الشعرية والغنائية التي وثقت لأول ثورةٍ سودانية، ضد الحكم العسكري "1958-1964". والتي كتبها الشاعر والمسرحي: هاشم صديق، ولحنها: محمد الأمين، فيما وزعها موسيقيًا: موسى محمد إبراهيم. بمشاركة مغنين آخرين: بهاء الدين أبو شلة، عثمان مصطفى وأم بلينا السنوسي.

ومثلت ملحمة أكتوبر، أو "قصة ثورة"، التي تعد أول عمل غنائي مسرحي، واحدة من علامات الغناء الوطني والثوري في السودان. حيث تم تقديمها في حفلٍ كبير، على خشبة المسرح القومي بأم درمان، في العام 1968، بمناسبة الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر. مثلت هذه الملحمة واحدة من الروافع الفنية العاتية لتجربة خليل إسماعيل. وما يزال الناس يذكرون بكثير محبةٍ، الصوت التينور، المقارب للسبرانو، لخليل وهو ينشد المقطع الأثير: إيد في إيد حلفنا نقاوم/ ما بنتراجع، وما بنساوم.

أما المحطة الثانية في تجربة خليل إسماعيل، فقد كانت دخوله المعهد العالي للموسيقى والمسرح، حيث تلقى هو وعدد من زملائه الفنانين، منهم بالطبع رفيقه: أبوعركي البخيت. ويؤكد مقربون وعارفون لتجربته الغنائية، أن الأعمال التي أداها، أو لحنها خليل إسماعيل بعد إكماله دراسة الموسيقى بالمعهد، كانت مختلفةً عن ما كان قبله. 

فقد ظهر بشكلٍ جلي في انتقالاته اللحنية، وفي كثافة الموسيقى، وحسن استخدامه وتوظيفه للآلات الموسيقية. كما تبدى ذلك في اهتمامه بالتراث الموسيقي السوداني، مثل أغنية: الكومبا، كواحدة من تنقيبات الموسيقي إسماعيل عبد المعين. حيث قدمها خليل إسماعيل بشكلٍ، ولونيةٍ، وأدائيةٍ جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: "كجراي" أو "المحارب".. سيرة شاعر ومعلم وثائر

أما المحطة الثالثة، فهي لقائه بالشاعر محمد علي دفع الله، المشهور بإسم محمد علي أبو قطاطي. وأنتجت هذه الثنائية العديد من الأغنيات، في قامة الأماني العذبة. لكن فوق هذه المحطات الثلاثة، فإن لخليل إسماعيل، مساهمةٌ في إحياء عددٍ من أغنيات الآخرين، التي ربما طمرها النسيان. من أمثلة تلك الأغنيات: "ليه ده كلو يا حبيبي"، و"كان بدري عليك". وكلا الأغنيتين، للشاعر عبد الرحمن الريح، وأول من تغنى بهما الفنان الراحل عمر أحمد.

 في رصيد المغني خليل إسماعيل، بجانب الأماني العذبة، أكثر من خمسين أغنية، بحسب الذي تم تسجيله بالإذاعة السودانية

بقي أن نشير إلى أن في رصيد المغني خليل إسماعيل، بجانب الأماني العذبة، أكثر من خمسين أغنية، بحسب الذي تم تسجيله بالإذاعة السودانية، وأبرز هذه الأغنيات: جبل مرة، بديع حسنك، حب ما اعتيادي، الهِبيَِب، بسحروك، وغيرها.

اقرأ/ي أيضًا

أبوداؤود.. يا من كسانا شجون

كلية الموسيقى والدراما.. رحيل العمالقة وتساقط الأشجار