02-يوليو-2023
مثلت العاصمة جوبا محطة مهمة ووجهة نهائية للعديد من الفارين من الحرب في السودان (أرشيفية/غيتي)

مثلت العاصمة جوبا محطة مهمة ووجهة نهائية للعديد من الفارين من الحرب في السودان (أرشيفية/غيتي)

تعرض السودانيون لنماذج مختلفة من الانتهاكات نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية، حيث انتشرت المواجهات العنصرية والقتل المباشر وانكسار أهل ذوي الاحتياجات أمام جبروت البزة العسكرية، وذلك منذ تفجر النزاع المسلح بين الجيش السوداني والدعم السريع في نيسان/أبريل الماضي.

ويعتبر كثيرون أن تلك الاستفزازات ليست جديدة على أفراد المؤسسة العسكرية، إنما متجذرة في عقيدتها وموروثاتها التدريبية، فيصفون المواطن بـ"الملكي" و"الكهنة" و"الدلقون" للتقليل من شأنه، وما تزال القصص والحكايات تروى عن المواجهات بين المدنيين والعسكريين في المواكب واعتصام القيادة العامة، وهي تجارب ستظل محفورة في ذاكرة الثوار الذين لن يغفروها أبد الدهر.

الفارون رسموا على مواقع التواصل الاجتماعي عشرات الصور بكلمات يعتصرها الألم منذ أن بدأت رحلة النزوح القسري من السودان

الفارون رسموا على مواقع التواصل الاجتماعي عشرات الصور بكلمات يعتصرها الألم منذ أن بدأت رحلة النزوح القسري، ووثق البعض صور الارتكازات العسكرية بتشكيلاتها المختلفة، حيث يتواجد الجنود بأعداد كبير عند نقاط التفتيش. يصعد أحد الجنود على الحافلة ليختار عشوائيًا بعض الأشخاص ويسأل عن "إثبات الشخصية"، في زمن تهاوت فيه سمات الشخصية السودانية وضاعت ملامحها بين سحب الدخان المتصاعد بسبب المواجهات العبثية. "الشكل، اللون، مكان الميلاد" قد يتسبب أيًا من ذلك في قتلك، وقد يعطيك امتيازًا، وهذا يعتمد على من يقف في نقطة التفتيش من طرفي الصراع.

فمن يتواجد بنقطة التفتيش له الحق في نهبك، إذلالك وقتلك -إن دعا الأمر- وتمتد سلطته إلى التعدي على ممتلكاتك ومقتنياتك الشخصية من هواتف وأموال وكل ما خف وزنه. علاوة على ذلك سيل الشتائم والترهيب والاتهامات بالخيانة وعدم الوطنية.

وفي تفاصيل المضايقات روى الكاتب الصحفي والناشط المدني عضو نقابة الصحفيين السودانيين صلاح حسن جمعة "دامبا"، لـ"الترا سودان" قائلًا:

"استمرت معاناتي منذ انطلاق شرارة الحرب. أسكن بحي الصالحة في منطقة تبعد مسافة كيلومتر من معسكر الدعم السريع. بقينا بالمنزل لمدة (45) يومًا تحت القصف المتبادل بين طرفي النزاع وأزيز الطائرات ودوي المدافع وصرخات الأطفال، وقد حاولت الخروج عدة مرات لكن فشلت المحاولات. تقطعت بي السبل فقررت أمد الزملاء الصحفيين بالأخبار والمعلومات عن منطقة الصالحة، وذلك في ظل التعتيم الإعلامي الكبير".

يقول صلاح حسن "دامبا" في حديثه لـ"الترا سودان"، إنه مع مضي الوقت اتسعت رقعة الحرب ودخلت الأحياء واحتل الجنود منازل المواطنين، الأمر الذي دفعه للخروج من المنزل والذهاب إلى منزل أخيه الذي لا يبعد مسافة بعيدة عن مسرح المواجهات التي يصفها بـ"العبثية".

كانت مدينة الرنك في جمهورية جنوب السودان النقطة الأولى خارج البلاد للعديد من السودانيين الفارين من الحرب
كانت مدينة الرنك في جمهورية جنوب السودان النقطة الأولى خارج البلاد للعديد من السودانيين الفارين من الحرب

ويضيف "دامبا": "خرجت مجبرًا في الثاني من حزيران/يونيو 2023 وأنا يعتصرني الألم ويخفق قلبي بشدة على وطني. لم أتوقع أن أواجه صعوبة عند خروجي، وعبرت المدن الثلاث المكونة للعاصمة الخرطوم، وكان المخرج المتاح جسر الحلفايا. حتى جسر الحلفايا عبرت بأكثر من (100) نقطة تفتيش يؤمها أشخاص بملابس عسكرية ومدنية، وفي إحدى نقاط التفتيش تم توقيفنا من مجموعة تنتمي للدعم السريع وترتدي الزي المدني وتحمل أسلحة متنوعة، قامت هذه المجموعة بنهب الهواتف وأموال الجميع. فقدت كل ما أملك، ونجا هاتفي".

ويزيد عضو نقابة الصحفيين بالقول: "تم توقيفنا عند مدخل كبري الحلفايا، حيث لم تكن القوات المسلحة أفضل من الدعم السريع في التعامل، وطرحت ذات الأسئلة المبنية على الهوية الجغرافية والإثنية والقبلية: ما هي طبيعة عملك؟ وحتى موقع إقامتك محل تساؤل. يا الله! أصعب المواقف التصنيف الافتراضي، الجيش يعتبرك تتبع للدعم السريع والعكس. كانت أصعب أربع ساعات في حياتي من السابعة إلى الحادية عشر صباحًا في ذلك اليوم الذي قررت فيه الخروج من الخرطوم".

مطار الرنك
 عضو نقابة الصحفيين السودانيين صلاح حسن جمعة "دامبا" في مطار الرنك قبل الصعود إلى الطائرة

يقول "صلاح" في حديثه لـ"الترا سودان" إن "الصمت كان سيد الموقف، والخوف يرسم ملامح الركاب، كل منا يخاف من الشخص الذي يجلس بجواره. تحركت الحافلة من منطقة الفتيحاب ولم يتحدث أي شخص مع الآخر، وبين كل (200) إلى (300) متر يوجد ارتكاز، وفي كل نقطة تفتيش يزداد الضغط النفسي بسبب الأسئلة المستفزة والكلمات النابية والاتهامات المكررة".

ويردف: "تكرر هذا المشهد طوال عمر الرحلة حتى مدينة ربك بولاية النيل الأبيض، عندها قررنا تمضية الليلة هناك على أن نواصل الرحلة صوب جنوب السودان من خلال معبر جودة. لم يخطر ببالي أن نشهد ذات المعاملة عند نقطة التفتيش بمدينة الجبلين؛ تعاملت معنا القوات المسلحة السودانية بقسوة شديد. كنت أعتقد قواتنا المسلحة سوف تمسح على حزننا وتواسينا في موتانا بعد الخروج بعيدًا عن الخرطوم، لكن تعرضنا لكل أشكال الذل والإهانة والتفتيش والإساءات النابية ثم التهديد بعدم السماح لنا بالعودة إلى السودان مرة أخرى".

يغادر السودانيون من الرنك عبر طائرات شحن إلى عاصمة جمهورية جنوب السودان
يغادر السودانيون من الرنك عبر طائرات شحن إلى جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان

واصل " صلاح" وهو يروي قصة خروجهم من السودان: " دب الخوف على قلوبنا من جديد، وسألت نفسي متى أطمئن؟ بعد مشقة وصلنا معبر منطقة جودة الأول الذي يقع في حدود جمهورية السودان. إنه آخر نقطة تفتيش لكن لم تكن نهاية الذل، حيث تم أخذ جوازاتنا من قبل أفراد استخبارات الجيش السوداني. كان أحدهم يجلس بطريقة مستفزة، يضع رجلًا على الأخرى ويتحدث بصلف ولغة تهديد ووعيد بعدم السماح لنا بالعودة مرة أخرى. للمفارقة بصحبتي شخص مقيم بدولة فرنسا، لم يشفع له ذلك، وعكس فرد الاستخبارات عدم الاحترام المنهجي" - بحسب تعبيره.

يحكي "صلاح": "صمتنا خانعين مذلولين. إنهم يحجزون على جوازات سفرنا، ونحن مجبرون دفعنا لهم بعض المال للعبور. دب الخوف إلى قلبي وسألت نفسي كيف يكون التعامل في دولة جنوب السودان؟".

ويقول الناشط المدني في حديثه لـ"الترا سودان": "للأمانة والتاريخ كان التعامل مختلفًا في جودة الجنوب سودانية، حيث مررنا على عدد من المكاتب ويقولون لنا حمدًا لله على السلامة ترحابًا ومواساة على المصيبة التي حلت بالسودان، ولم نخلص أيضًا من دفع بعض المبالغ المالية بغرض العبور. أخيرًا! آه بحمد الله دخلنا دولة جنوب السودان ولاية أعالي النيل منطقة الرنك. امتلأت المدينة بالنازحين واللاجئين من السودانيين والإثيوبيين وغيرهم من الجنسيات، ولكن لم أحس بالتميز أو الغربة، حيث استقبلنا أهلنا بدولة جنوب السودان بصدر رحب، وكنا نجد المواساة بينما نسير في شوارع مدينة الرنك".

أجبرت المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع معظم السكان في مناطق الاشتباكات على مغادرة منازلهم

يقول "صلاح": "واجهنا تحدٍ جديد، وهو صعوبة الطيران من الرنك إلى مدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، وحتى الطيران المتوفر هو طيران للشحن الجوي. إنه تحدٍ كبير أن تنتقل مع البضائع، بالرغم من أن هناك وعود من اللجان التي تنظم ذلك. كنا نذهب إلى المطار كل يوم وتتعدد أسباب التأجيل  بين الازدحام والوزن الزائد، فمكثنا (14) يومًا حتى تمكنا من الوصول إلى جوبا. وصلت جوبا معدمًا تمامًا بعد أن تعرضنا للنهب بنقاط الارتكاز "التفتيش" بجمهورية السودان. أشكر من ساعدنا وأطعمنا بمدينة الرنك، ولم يختلف الوضع بجوبا، حيث استقبلونا بحفاوة وكل أفراد المطار طيبوا خاطرنا، لكن تجربة نقاط التفتيش تظل خالدة في ذاكرتي".

وأجبرت المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع معظم السكان في مناطق الاشتباكات على مغادرة منازلهم، المئات من السودانيين وثقوا لطريقة سفرهم، كل شخص كتب وشارك تجربته في السفر والخروج من العاصمة السودانية الخرطوم. هذه المرة غادر السودان أعداد كبيرة من النازحين الذين اختاروا الولايات والبعض اختار دولًا أخرى، وما تزال القصص والحكايات تمطر الأسافير، قوامها الحزن والألم والذل والهوان بنقاط التفتيش.

https://t.me/ultrasudan