بينما تُطالب الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني "اليقظة" في السودان، الحكومة الانتقالية بإجراء إصلاح اقتصادي وتحقيق نتائج مُرضية للمواطن، بما في ذلك القضاء على الهياكل الفاسدة للحكومة السابقة، يواصل السودانيون تحمل ضغوط هائلة نتاج التضخم المُفرط والنقص الحاد في السلع والخدمات الأساسية، وتلاشي القوة الشرائية يومًا بعد يوم.
مؤسسة "الحارس The Sentry"، أشارت في تقرير حديث إلى العمليات التجارية التي تسيطر عليها إلى حد كبير المؤسسات العسكرية والأمنية خارج ولاية وزارة المالية
الحكومة الانتقالية في السودان، في ذات الوقت، تعمل على التقدم في عمليات الإصلاح الهيكلي للاقتصاد، وعلى وجه التحديد؛ الشفافية المالية، محاربة الفساد وولاية الحكومة المدنية على كافة الشركات الوطنية والمؤسسات شبه الحكومية. في وقت قدم فيه المانحون والأوساط المالية وعودهم بالدعم الاقتصادي والتنموي للحكم الانتقالي في السودان، شريطة استعادة الحكومة السيطرة على الشركات المملوكة للدولة وعائداتها.
اقرأ/ي أيضًا: "ذئاب القروض" في السودان.. تقرير دولي يفضح فساد ابن البشير بالتبنّي
التقرير الذي أصدرته مؤسسة "الحارس The Sentry"، الأسبوع الماضي، أشار إلى مجموعة من العمليات التجارية التي تسيطر عليها إلى حد كبير المؤسسات العسكرية والأمنية خارج ولاية وزارة المالية. وفي وقت تتمسك فيه المؤسسات العسكرية بعائدات شركاتها الاستثمارية بحجة المحافظة على الاستقرار الاقتصادي. يشير التقرير إلى أن وعود المجتمع الدولي بدعم الحكم الانتقالي، باتت مرهونة بتقدم الحكومة المدنية في توحيد خزانتها والسيطرة على عوائد شركاتها الحكومية وشبه الحكومية.
وتحت عنوان "السودان يكافح للسيطرة على مؤسساته شبه الحكومية”، كشف تقرير "ذا سنتري"، عن صراع داخلي وتوترات، بين بعض مكونات الحكم الانتقالي، فيما يتعلق بولاية وزارة المالية على عائدات وموارد المؤسسات والشركات الحكومية، التي اعتبرها النظام البائد حجر أساس للتمكين الاقتصادي للحزب الحاكم وأنشطته.
ويُسلط التقرير الضوء على الضغوط المحلية والدولية لإصلاح هياكل الدولة ومكافحة الفساد الإداري والمالي، في وقت تعارض فيه مجموعات من النظام السابق الخطوة، وتسعى لتعطيل عجلة السيطرة على الشركات الحكومية، باعتباره مُهددًا لمنافذ تمكينها وسيطرتها على المال العام. بينما أوصى التقرير بمجموعة من التدخلات العاجلة لبسط وزارة الحكم المدني رقابته على عوائد وملكية المؤسسات العامة.
مكتسبات الثورة وموروثات العهد البائد
بعد ثمانية عشر شهرًا منذ تولي مجلس الوزراء بقيادة المدنيين مهامه في أيلول/سبتمبر 2019، نشرت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، في الخامس من نيسان/أبريل 2021، قائمة أولية ببيانات الهيئات والشركات التي تملكها مؤسسات الدولة المختلفة والمسجلة لدى المسجل التجاري.
وقد أعلنت وزارة المالية، أن الخطوة تأتي في إطار سياسات الإصلاح الهيكلي للاقتصاد وما يعانيه من تشوهات، وتتضمن استمرارية رصد ونشر قوائم الشركات الحكومية في إطار الكفاح من أجل سيطرة وزارة المالية على الإيرادات العامة.
لكن التقرير الاستقصائي الجديد، كشف أن تأخر إعلان وزارة المالية عن "القائمة الأولية"، جاء نتاج مقاومة القرار داخليًا، بواسطة المؤسسات والشركات الحكومية التي تحظى بمعدلات كبيرة من السيولة، على وجه التحديد؛ الشركات التابعة للقوات المسلحة السودانية وجهاز المخابرات العامة وقوات الشرطة، التي سجلت “أقوى معارضة لما يعتبرونه تحديًا للاستقلال المالي لمؤسساتهم".
اقرأ/ي أيضًا: تقرير أوروبي: الإمارات والسعودية يجهزان حميدتي للحكم وأوروبا خذلت المدنيين
ويشير التقرير، الذي اطلع "الترا سودان" عليه، أنه وفي الوقت الذي يتم فيه تفكيك بعض العناصر المرتبطة بالنظام القديم في السودان، يستمر البعض الأخر في النمو والاستقرار خلال الفترة الانتقالية".
تغلبت الهيئات شبه الحكومية على وزراء المالية المتعاقبين في عهد البشير، وفي الفترة الانتقالية الحالية
ويضيف: "لقد قاتلت "الهيئات شبه الحكومية المدنية"، فضلًا عن شركات قطاع الأمن الأكثر قوة، وتغلبت على وزراء المالية المتعاقبين في عهد البشير، وفي الفترة الانتقالية الحالية"، وأردف: "سعوا إلى منع المؤسسات شبه الحكومية من إبقاء عائداتها ونفقاتها خارج الميزانية".
وأبان، أنها المرة الأولى التي تقدم فيها الحكومة السودانية حصرًا للعديد من الشركات الخاضعة لسيطرة وزارتي الدفاع والداخلية، وكذلك الشركات التي تديرها الوزارات الفنية والمُدرة للدخل مثل وزارات "الطاقة والتعدين والصناعة والاستثمار والزراعة".
وكشف التقرير، أن الحصر الذي أجرته وزارة المالية أظهر وجود (10) شركات قابضة تخضع لوزارة الداخلية وقوات الشرطة السودانية، مع (26) شركة تابعة لها تعمل في مجموعة من القطاعات الاقتصادية، إضافة إلى امتلاك وزارة الدفاع (34) شركة قابضة من ضمنها شركة جياد الصناعية العملاقة، التي تمتلك وحدها (24) شركة تابعة لها.
وأردف: "أظهرت القائمة الأولية، غياب الشركات التابعة لجهاز الأمن بشكل ملحوظ" فيما برر كاتب التقرير ذلك قائلًا: "لعل السبب في عدم إدراج هذه الشركات بالقائمة هو أن العديد منها، قد تم تسجيلها لدى المُسجل التجاري في كيانات تابعة لأفراد".
وبحسب التقرير، فقد علمت مؤسسة "الحارس The Sentry"، أن وزارة المالية طلبت من جهاز المخابرات العامة "نقل ملكية أي شركات متبقية تابعة للجهاز، ومسجلة حاليًا بأسماء أفراد، بحيث يمكن إدراجها في الإصدار القادم من القائمة".
مهام قيد التنفيذ
يرى كاتب التقرير المحلل السياسي الدكتور سليمان بلدو، أن الحصر الذي أجرته وزارة المالية غير مكتمل، ويستدل بلدو: " بالكاد تعكس القائمة الممارسات الشائعة لقطاع الأمن والشركات الأخرى التي تساهم في الكيانات التجارية في القطاعين العام والخاص".
ويضيف سليمان، أن قائمة البنوك التجارية الحكومية والمختلطة التي تساهم فيها الحكومة أو إحدى شركاتها العامة؛ غير مكتملة، وزاد "تلك القائمة لا تظهر إلا فيما ندر العدد والنسبة المئوية للأسهم التي تمتلكها الحكومة أو الكيانات العامة المُدرجة في البنوك الأخرى.
وجاء في التقرير، أنه من بين (431) مؤسسة شبه حكومية نشطة، اتضح أن (12) مؤسسة فقط تقوم بتسليم إيراداتها وأرباحها إلى وزارة المالية. علاوة عن وجودة (400) مؤسسة لم تخضع لمراجعة ديوان المراجع القومي بشكل مُنتظم.
وبحسب ذات التقرير، فإن المؤسسات والشركات الحكومية هي السبب الرئيس لسيطرة الحكومة السودانية على (18)% فقط من مجمل عائدات الوكالات الحكومية وأنشطتها الاقتصادية.
قوات الدعم السريع والميزانية الوطنية
وتخوف المستشار والمحلل السياسي، من مشاركة الشخصيات السياسية البارزة في المؤسسات والشركات الحكومية في السودان، وتابع، "على سبيل المثال، المصالح التجارية الخاصة الغامضة، لقادة قوات الدعم السريع شبه العسكرية السودانية".
اقرأ/ي أيضًا: ما بعد مؤتمر باريس.. تحولات المشهد الاقتصادي السوداني
ونقل التقرير، أن وزير المالية ومستشار الحوكمة في السودان، أكد أنه "لم يتم العثور على أي شركات تابعة لقوات الدعم السريع، أثناء حصر وزارة المالية للشركات والمؤسسات العامة".
أوصى التقرير بإخضاع الشركات الخاصة بقادة قوات الدعم السريع لنفس التدقيق الذي ستخضع له في نهاية المطاف شركات القوات المسلحة
وطالب التقرير، الحكومة الانتقالية، بتوحيد القوات النظامية، وفقًا لإصلاحات قطاع الأمن التي نصت عليها اتفاقية جوبا للسلام الموقعة مؤخرًا، لتقليل العبء غير المتناسب من الميزانية للإنفاق على قطاع الدفاع والأمن.
وأوصى التقرير بضرورة وضع الحكومة الانتقالية مهام جادة قيد التنفيذ، تتضمن "إخضاع الشركات الخاصة بقادة قوات الدعم السريع لنفس التدقيق الذي ستخضع له في نهاية المطاف شركات القوات المسلحة السودانية وجهاز المخابرات العامة ووزارة الداخلية". وأشار إلى أن "قوات الدعم السريع تتلقى مخصصات كبيرة في الميزانية الوطنية".
نحو رقابة "غير مسبوقة"
ويسلط تقرير المؤسسة المهتمة بالشأن الإفريقي، الضوء على خطط الحكومة لكيفية وضع الشركات المملوكة للدولة تحت سيطرتها وفقًا لاتفاقية مُبرمة مع منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للقوات المسلحة السودانية.
وأعلنت الحكومة أن نظام الصناعة الدفاعية قد قدم اقتراحًا من شأنه أن يسمح لمؤسسات الأمن والجيش بمواصلة إدارة المؤسسات الخاصة المرتبطة بالصناعات الدفاعية، بينما يتم تحويل مؤسساتها المدنية إلى كيانات مملوكة ملكية عامة تسيطر عليها وزارة المالية، بحسب إفادات التقرير.
وبرر الكاتب والمحلل السياسي سليمان بلدو، تركيز الحكومة على بسط إشرافها ورقابتها على شركات أنظمة صناعة الدفاع بفعل "واقع سيطرة العديد من الكيانات العملاقة التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية في قطاعات اقتصادية وصناعية حيوية".
في السياق، أخبرت المصادر "ذا سنتري"، أن المناقشات بين الحكومة وقيادة الجيش استمرت لعدة أشهر، بالتركيز على مستقبل نظام صناعة الدفاع في ظل حكومة ديمقراطية وتدقيق محلي ودولي أكثر جدية. وأضافت، "أوضحت المناقشات الحاجة لتوسيع نطاق حوكمة منظومة الصناعات الدفاعية لضمان إشراف الحكومة وشفافية العمليات".
وكشف التقرير، عن اتفاق بين الحكومة ومنظومة الصناعات الدفاعية على إنشاء مجلس للتنمية الاقتصادية، لضمان "الاندماج في استراتيجية التنمية الصناعية الشاملة في السودان" و"تحويل الشركات المدنية إلى كيانات مملوكة للقطاع العام ورقابته".
اقرأ/ي أيضًا: سكك حديد السودان.. بين هيمنة القطاع الخاص وغياب الإرادة الحكومية
ويُعاني السودان من فجوات كبيرة في القيمة التجارية في صادراته المعلنة من جميع السلع، لا سيما النفط والذهب، منذ 2012، فقد خسر السودان (8.2) مليار دولار على صادراته من النفط والذهب، بما يعكس (85)% و(48)% على التوالي من صادرات السودان المعلنة رسميًا، وفقًا لدراسة أجرتها منظمة (Global Financial Integrity).
سليمان بلدو: أمام الحكومة المدنية في السودان طريق طويل للسيطرة على الهيئات شبه الحكومية
ولفت التقرير، إلى ضرورة إخضاع الشركات المملوكة للدولة عبر الوزارات الفنية لرقابة غير مسبوقة بواسطة وزارة المالية، وأردف: "تُعد صادرات وواردات النفط وتوزيع الوقود وإمدادات الطاقة وصناعة الذهب من بين أعلى الأنشطة المدرة للدخل في السودان، وما تزال العديد من الشركات التي تعمل على تدفقات الإيرادات هذه خاضعة لسيطرة وزارة الطاقة والتعدين".
حمدوك والأصول التجارية للجيش
وحول الإجابة على التساؤل "ما الذي يجب أن يحدث بعد ذلك؟" يرى سليمان بلدو، إلى أن السودان يواجه اليوم إرث ثلاثة عقود من حكم ما وصفه بـ"الكليبتوقراطية" التي تعني "حُكم اللصوص" وتابع: "أمام الحكومة المدنية في السودان طريق طويل للسيطرة على الهيئات شبه الحكومية في السودان".
الكاتب في معرض حديثه عن حلول الأزمة يقول: "يجب على المؤسسات شبه الحكومية أن تفتح دفاترها لوزارة المالي. ويجب على شركاء السودان الدوليين مواصلة دعم جهود السلطات السودانية لضمان امتثال جميع المؤسسات شبه الحكومية لمتطلبات الشفافية المالية".
ويشير سليمان، إلى ضرورة تطوير خارطة طريق قابلة للتطبيق والقياس، في وقت يشهد فيه الصراع حول ولاية وزارة المالية على "المؤسسات شبه الحكومية" بما أسماه "توترات شديدة" بين المكونين المدني والعسكري. وأضاف كاتب التقرير "قد تصرخ بعض القوى اليوم: حمدوك يتولى الأصول التجارية للجيش".
وأوصى كاتب تقرير "ذا سنتري"، الحكومة الانتقالية في السودان بالسعي لإصلاح قوانين حماية المال العام، بشكل عاجل ومُحاسبة المعتدين عليه، والتعامل عبر خزينة واحدة للدولة تحت ولاية وزارة المالية ورقابة ديوان المراجع العام، وأي جهات رقابية أخرى تُعينها الحكومة.
ودعت “ذا سنتري"، إلى إجراء إصلاحات تستهدف مستوى الاستثمار والأنشطة التجارية لتعزيز "المنافسة العادلة بين الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص"، والإلغاء الفوري لجميع الإعفاءات من الضرائب والجمارك وغيرها من الإعانات والاحتكارات الممنوحة لقطاع الأمن والشركات والمؤسسات العامة الأخرى، علاوة عن فرض إغلاق جميع الحسابات، التي تحتفظ بها المؤسسات شبه الحكومية خارج الميزانية، وإدراج جميع الأرصدة تحت حساب الخزانة الوطنية الوحيد.
وناشدت المنظمة في التقرير، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بالاستعداد لفرض عقوبات على "أي مفسدين يقوضون هذه العمليات".
اقرأ/ي أيضًا: آثار كورونا على قطاعات النقل والتعليم والصحة.. ما هي خيارات السودان؟
وطالب كبير المستشارين بالمنظمة، بتحديد الشركات الخاصة المملوكة لقادة قوات الدعم السريع وإخضاع معاملاتهم الدولية للتدقيق لضمان امتثالها لجميع القوانين السودانية والمعايير الدولية.
مجموعة "الحارس" هي فريق تحقيق وسياسة يتابع الأموال القذرة المرتبطة بمجرمي الحرب الأفارقة والمستفيدين من الحرب العابرة للحدود
ولفت إلى ضرورة تقوية الموارد البشرية والمالية لوزارة المالية لتمكينها من فرض رقابة على الشؤون المالية لجميع مؤسسات القطاع العام. وإخضاع جميع الشركات المملوكة للدولة لعمليات تدقيق قبل ديوان المراجعة القومي أو "أي مراجع آخر تعينه الحكومة المدنية".
وتُعرف The Sentry على أنها "فريق تحقيق وسياسة يتابع الأموال القذرة المرتبطة بمجرمي الحرب الأفارقة والمستفيدين من الحرب العابرة للحدود، ويسعى إلى إبعاد المستفيدين من العنف عن النظام المالي الدولي".
اقرأ/ي أيضًا