صورة أولى: نجح طالب معاق بالدخول لأحدى الجامعات الكبرى، لكنه تفاجأ بأن عملية الوصول للجامعة شاقة جدًا لأن المواصلات ليست مؤهلة ليصعد إليها شخص معاق في الوقت المناسب قبل انطلاقها من المحطة. داخل الجامعة يعاني بشكل دائم صعوبة الوصول لقاعة الدرس لأن السلالم عالية وليست هناك مداخل مصممة لدخول شخص مثله، وكذلك الحال بالنسبة للمراحيض بالحرم الجامعي فليس فيها ما هو مصمم لذوي الإعاقة الحركية، المكتبة والكافتيريا وكل شيء في الجامعة تعامى مصمموه تمامًا عن حوجة هذه الشريحة من المجتمع. إذًا فكيف سيواصل تلقي التعليم؟
صورة ثانية: متهم أو حتى شاك مصاب بالصم أو البكم داخل قاعة المحكمة، يجد مشقة في التواصل مع القاضي والمحامي، كيف يدافع عن نفسه؟ وما مصيره داخل السجون، المحاكم لا تملك من يتحدث لغة الإشارة وحتى إن امتلكت فهل هو نفسه يعرف لغة الإشارة؟
صورة ثالثة: مريض معاق في مستشفى، يريد أن يشرح للطبيب ما يعاني منه ويؤلمه لكن لا يوجد مترجم إشارة بالمبنى، هل يترك للموت؟
تلك نماذج لصور معاناة المعاقين يوميًا، بقلوبهم أحلام وآمال عريضة بعد الثورة التي شاركوا فيها بشكل ملحوظ ولافت ومثير للإعجاب وتعرضوا للاعتقال والضرب، وكل أملهم أن تأخذ السلطة الجديدة مطالبهم على محمل الجد، ويكون لهم تمثيل عادل في المؤسسات والبرلمان، وتراعي تصاميم الشوارع والمنشآت العامة والخاصة احتياجاتهم البسيطة، فهل ستحقق الدولة المدنية آمالهم البسيطة كونها بالأساس ليست إلا أبسط حقوق في الحياة؟
ناشط حقوقي في مجال الإعاقة: نطالب بتحويل المعاق لشخص منتج عن طريق توفير المشاريع الصغيرة والتعاونيات
الحرب والإعاقة.. مصير مشترك
أسباب انتشار الإعاقة في السودان متعددة ومتداخلة، يؤكد الناشط فخرالدين عوض حسين أن الحروب السابقة بين الشمال والجنوب كانت سببًا مباشرًا للإعاقة، نتيجة القنابل الأرضية "الألغام" حيث تكلف زراعة لغم أرضي دولارًا واحدًا وتكلف عملية نزعه (500) دولار، هذا مع المخاطر الكبيرة في تعرض أي شخص للإصابة به قبل وأثناء نزعه. لا يقتصر أثر الحرب عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى مناطق أخرى، يقول فخرالدين: "من آثار الحروب انتشار أسباب الفقر ويمكن أن يؤدي إلى سوء التغذية المتواصل للإعاقة. عدم وصول اللقاحات للمناطق المتأثرة بالحرب والنزوح مثل جبال النوبة وإقليم دارفور، الذين لا تصلهم لقاحات شلل الأطفال، يعرّض الأطفال حديثي الولادة فيها للخروج إلى الحياة بإعاقة".
اقرأ/ي أيضًا: السودان ومرض الإيدز.. سؤال المجتمعات المحلية
الحرب وحدها ليست سببًا للإعاقة في السودان، تنتشر ظواهر في مناطق كثيرة تؤثر على الأفراد وهذا ما يؤكده فخرالدين بالقول: "تم في العهد القديم التخلص من مجموعة ضخمة من النفايات مثل الهواتف وأجهزة الكمبيوتر القديمة، بطريقة غير صحية في ولاية الجزيرة وبربر وأصيب كثير من الأشخاص بالصم وفقدان البصر، هناك (مقبرة نفايات) في العراء بولاية الجزيرة خاصة بالمبيدات. استقبل النظام القديم (بقايا بشرية) بأعداد كبيرة من جمهورية الصين والدول الأوربية وتخلصوا منها في السودان، كلها أسباب ساهمت في انتشار الإعاقة".
انتقد فخرالدين القوانين المتعلقة بالكرامة الإنسانية في السودان وقال إن المستشفيات الخاصة التي تحتوي على ممر لدخول المعاقين "مزلقان" غالبًا ما يكون شديد الانحدار ويمكن أن يتسبب في إعاقة جديدة للمعاق أو وفاته. وطالب الدولة بالاهتمام بالقطار وتساءل: "يفتح القطار أبوابه لمدة دقيقتين أو ثلاث، كيف للمعاق أن يصعد في هذه الفترة القصيرة؟".
أكد فخرالدين على أهمية تحويل المعاق لكائن منتج، يقول: "يجب إعادة صياغة المعاق ليتحول لمنتج لا طالبًا للرعاية، نحن في السودان نهتم بأكله وشربه فقط وهذا يقتله لأنه يشعر بأن لا فائدة له في الحياة". وكشف فخرالدين لـ"الترا سودان" عن مشروع مع وزارة التجارة والصناعة عبارة عن ورشة تدريبية لتعلم (التعاونيات) والتسويق العملي للمنتجات التي سيقومون بصناعتها.
مفهوم خاطئ للإعاقة
"الإعاقة يمكن أن تحدث لأي فرد نتيجة حادث حركة أو غير ذلك من الأسباب، مشكلتنا أننا لا نفكر ونخطط لها إلا بعد حدوثها" بهذه الكلمات ابتدر رئيس اللجنة العليا لمبادرة (خليك واعي) حافظ الصادق إبراهيم حديثه لـ"الترا سودان" وتابع قائلًا: "لم تعد فكرة مساعدة شخص من ذوي الإعاقة بدافع الرحمة أو الشفقة أمرًا مقبولًا، هذا واجب بغض النظر عن العرق والدين ونريد أن نؤسس في العهد الجديد للدولة السودانية لعلاقة تقوم على الواجبات والحقوق".
يطلق البعض على الأشخاص ذوي الإعاقة مصطلح (ذوي الاحتياجات الخاصة) ويرفض حافظ الصادق هذا المسمى بحجة إنه قاصر عن فهم أبعاد القضية، ويحمل دلالات على الشفقة والعطف الغير مبرر، ويؤكد أن المرأة الحامل وكبار السن هم أيضًا ضمن فئة الاحتياجات الخاصة لذلك يجب تمييز الإعاقة بمسماها الواضح والصريح. قال: "لا توجد نسب وإحصائيات حديثة تحدد جغرافيا وأسباب انتشار الإعاقة، آخر نتيجة ظهرت في العام 2006 وذكرت أن (15%) من سكان السودان هم من ذوي الإعاقة".
اقرأ/ي أيضًا: العنف ضد المرأة السودانية.. "انتفاضة" للمساواة وشجب الاغتصاب
طالب حافظ الصادق بضرورة دمج المعاق في البيئة وتوفير حق العلاج والتعليم. وذكر أن البيئة السودانية العامة لا تتوفر فيها أبسط مقومات مساعدة المعاق مثل ممرات الدخول والخروج "المزلقانات" بما في ذلك القصر الجمهوري والمجلس التشريعي المنوط بهم الدفاع عن حقوق المعاقين بإصدار قوانين تحفظ حق المعاقين في العيش الكريم. وأكد أن وجود "مزلقان" يساعد على تغطية شرائح أخرى مثل النساء الحوامل والمرضى الذين يجدون صعوبة في استخدام السلالم.
لا تنحصر القضية في توفير بيئة مساعدة وحسب، بل تتجاوزها لما هو أبعد، ويشرح حافظ الصادق هذه النقطة بالقول: "صحيح أن آخر إحصائية رسمية ذكرت نسبة (15%) لكن إذا أضفنا إليهم الوالدين والمحيط الصغير للمعاق سترتفع النسبة إلى (60%) وهم المتأثرون بحدوث الإعاقة في بيئتهم الصغيرة. قمت بعمل استبيان شخصي، لم تعترف به الحكومة السابقة نتيجته كانت أن (93%) المجتمع السوداني يجهل مفهوم الإعاقة".
حافظ الصادق: 93% من المجتمع السوداني يجهلون مفهوم الإعاقة. ولم يتم حسم نسبة تمثيل المعاقين في المجلس التشريعي
شبح الإعاقة
هل ستختلف النظرة تجاه المعاقين في عهد الدولة المدنية؟ وكيف ستتناول الحكومة الجديدة قضاياهم ومطالبهم؟ سؤال محوري يطرحه كل معاق على ذاته خاصة بعد مشاركتهم الواسعة قبل وأثناء الثورة ولا يزال عطاؤهم مستمرًا لليوم. يقول حافظ الصادق إن الدستور نص على إلزامية توظيف (5.2%) من المعاقين في جميع المؤسسات، لكن نجد أن بيئة هذه المؤسسات استبعدت المعاق حتى قبل توظيفه، وذلك بعدم تهيئة البيئة الجديدة لاستيعابه ضمنها. وانتقد حافظ الصادق عدم توفير مترجمين للغة الإشارة في المؤسسات الحيوية مثل المستشفيات وتساءل: "كيف للمعاق أن يوصل شكواه للطبيب؟".
وعن مرحلة ما بعد الثورة يقول حافظ الصادق: "شاركت فئات المعاقين المختلفة في الثورة وكانوا ينظرون إليها بعين الأمل لتغيير قياداتهم التي تم فرضها عليهم من قبل النظام البائد، وتدخل في فئة الإعاقة المرأة والجنود والمدنيون. إلى الآن لم يتم حسم نسبة تمثيلهم في المجلس التشريعي القادم".
اقرأ/ي أيضًا
بائعات الشاي والمأكولات.. مطالب ممكنة وأحلام مشروعة
قضايا "المناصير".. مظالم تاريخية تغذيها أذرع النظام البائد