لم يكن يعلم أن تمسكه بعيشه مع جدته بالخرطوم في ضاحية "بري اللاماب" منذ ما يزيد عن خمسِ سنوات ستكون نهاية حياته بهذه الطريقة البشعة، وأنه سيموت دهسًا بين إطارات عربة شحن "الدفار" التي أودت بحياته وهو يؤدي واجبه الوطني الكبير بذاك الجسد الصغير، ويقف حارسًا لـ" الترس" في موكب 21 شباط/ فبراير في الخرطوم بالقرب من صالة أمسيتي .
"أمين صلاح" ذاك اسمه و وسمه، فقد كان أمينًا مع تراب أرضه، حريصًا على أن يتحرر هذا الشعب من قبضة السلطة الباطشة التي لا تراعي كرامة أهله، وتهدر دماء الشباب ليلًا ونهارًا، حتى يضمنوا بقاءهم في السلطة.
قبل أسابيع تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع فيديو يظهر فيه طفل لا يتجاوز عمره ثمانية أعوام، هو يفر هربًا من عربة شحن تلاحقه حتى دهسته
قبل أسابيع تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع فيديو يظهر فيه طفل لا يتجاوز عمره ثمانية أعوام، هو يفر هربًا من عربة شحن تلاحقه بقصد، حتى سحلته بعجلاتها وتهشم رأسه في مشهد مُريع، كان ذلك الطفل هو البطل الصغير " أمين صلاح"، وكل جريمته أنه ورفاقه من حراس الترس قد وضعوا حجارة على الطريق لمنع السيارات من العبور، وذلك للسماح للموكب بالوصول لغاياته وتوصيل رسالته، لكن ذلك لم يعجب صاحب " الدفار" ولم يقبل أن يقوم هؤلاء الصبية بمنعه من العبور، فتحرك نحوهم وطاردهم وارتكب جريمته النكراء في حق البراءة وقتل الأحلام، لكن هيهات أن يدهس الأمل في نفوس أطفال السودان وشبابه كما دهس "أمين" بكل قسوة وبشاعة.
أمين صلاح محمد قدم إلى الخرطوم منذ 7 سنوات عندما أتى به والده إلى أسرة فاطمة عوض أحمد في منطقة بري "اللاماب" في زيارة محبة ورد الجميل للسيدة التي عمل معها صلاح والد أمين لفترة من حياته، جاء بابنه ليتعرف على تلك المرأة العظيمة، إلّا أن الاقدار كانت ترسم حياة أخرى لأمين، خاصة بعد أن قرر والده السفر خارج الخرطوم والاستقرار في " الدمازين" غربي السودان، أحبّت السيدة فاطمة ذلك الصغير وقد أُعجب " أمين" بتلك الحياة وذلك البيت، فطلب من والده بصوت ٍ عالٍ أن يسمح له بالبقاء في هذا المكان الذي احتوى والده في الماضي كمساعد لهذه الأسرة.
بالفعل وافقت فاطمة على أن يعيش "أمين" معها، مع وجود مخاوف من تربية طفل في مثل هذا العمر وهذه الظروف السياسية والاقتصادية المعقدة، مع العلم أن أصغر أبنائها يبلغ من العمر (16) عامًا، لكن إصرار "أمين" كان أقوى من مخاوفها، فقبلت به ليكون جزءًأ من عائلتها، تُربيه وسط أبنائها كأنه ابنها فعلًا، بكل محبة وأخوة صادقة.
تحكي فاطمة عوض أحمد التي كانت بمثابة الأم الحنون للطفل "أمين" وأشرفت على تربيته منذ صغره، قالت وهي تصف ابنها المغدور إن "أمين" كان هادئ الطبع، مهذب يحب عمل الخير، يذهب إلى المسجد ويصلي باستمرار، ما جعله طفل محبوب من أهل منطقته، مضيفةً أنها حرصت على تعليمه واهتمت لأمر مستقبله، فقامت بتسجيله في الروضة ومن ثم مدرسة "بري اللاماب" بنين.
قالت فاطمة عوض إن "أمين" كان يساعد الناس ويستقطع من مصروفه اليومي لمساعدة أقرانه المحتاجين في مشاركة وجبة الفطور التي كانت تجمعهم في المدرسة، وحتى أنه كان يدفع بعض ملابسه إلى من يحتاجها من أطفال الحي، الذين كما يقول أمين: "ديل مساكين يا حبوبة فاطمة لازم نقيف معاهم ونديهم". تبكي حاجة فاطمة وهي تتذكر حديث طفلها الذي غُدر به بلا رحمة.
لم تستغرب حاجة فاطمة من عدم زيارة أسرة السائق الذي دهس "أمين" وأنهى حياته، وقالت أنه لولا لجان المقاومة الذين تمكنوا من القبض على السائق الذي كان ينوي الهرب بعد فعلته الشنيعة تلك، لكان الوضع أكثر إيلامًا، وتضيف فاطمة أنه تم تقييد بلاغ جنائي في مواجهته و إثبات الواقعة.
فيما أوضحت فاطمة أن والد "أمين" كان يعمل معها في السابق، وأنه قرر الزواج والرجوع إلى مدينته "الدمازين" والاستقرار هناك، وبعد سنوات قرر زيارتها وكان معه "أمين" ابن الخمس سنوات الذي تمسك بها وقرر العيش معها في الخرطوم، تاركًا والديه وأسرته خلفه، وكان يناديها بــــ"حبوبة".
تكفلت فاطمة عوض بتربيته إلى أن بلغ الحادية عشر من عمره، ووصل إلى الصف الرابع الابتدائي.
وتختم فاطمة حديثها من وسط الدموع: "إن مستوى "أمين" الدراسي كان جيدًأ جدًا و مشاركًا في كل النشاطات التي تُقيمها مدرسته، وقد كان محبوبًا من قِبل معلميه، و حلمه أن يصبح طبيبًا في المستقبل.
اقرأ/ي أيضًا