تقول المنظمات الإنسانية إن أكثر من نصف السودانيين بحاجة إلى مساعدات. تؤكد نفس هذه المنظمات أن التمويل للاستجابة الإنسانية أقل بكثير من المطلوب، وتواجه ميزانياتها عجزًا كبيرًا، بالإضافة إلى العرقلة المعتادة من الجهات الحكومية في مناطق سيطرة الجيش، وغياب أبسط مقومات الدولة والقانون في مناطق سيطرة الدعم السريع.
في السودان اليوم، توجد أكبر أزمة نزوح على مستوى العالم، حيث فر أكثر من (10) ملايين شخص من منازلهم جراء توسع رقعة الحرب على يد قوات الدعم السريع التي توثق مجموعة ضخمة من التقارير انتهاكاتها المروعة لحقوق الإنسان. يقيم هؤلاء النازحون في مراكز إيواء تفتقر لأبسط مقومات الحياة. الحرب والنهب المنظم أفقروهم، كما إن بعضهم فروا من بيوتهم تاركين كل شيء خلفهم للنجاة بحياتهم، ليواجهوا أسئلة المصير وتقلبات الأقدار في مناطق الحكومة التي لا تملك أن تبالي بهم حتى وإن أرادت، وهي لا تريد، بل تضيق عليهم بالحملات الأمنية وقوانين الطوارئ التي تسمح للسلطات بالبطش كيفما تشاء.
في الولايات التي لم تصلها الحرب بعد، توجد إدارات درجت المعارضة على تسميتها بـ"حكومة الأمر الواقع"
يتداول الناشطون من الشباب المناشدات في المدن الآمنة لإنقاذ النازحين حتى قبل دخول موسم الأمطار، وتقوم مبادرات شعبية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالجهد الذاتي، وما يسميه شباب السودان "الشيرات". الشير البسيط من شاب يكافح لسد الرمق والتصدق بما يزيد عن ذلك هو قبلة حياة لمرضى السكري والكلى وأصحاب الأمراض المزمنة الأخرى الذين لا يملكون شيئًا، وفوق ذلك لا يملكون ترف الانتظار.
في سياق هذه الأزمة الإنسانية التي تقول الإحصائيات إنها تتضمن أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم، حل فصل الخريف في السودان. هذا الفصل منذ سنوات يأتي ومعه الكوارث جراء التغير المناخي أولًا، وأيضًا جراء غياب مؤسسات الدولة التي من مهامها تلافي وتقليل الأضرار بقدر الإمكان. الإمكان في سياق سودان اليوم هو فوق المستحيل بقليل نظرًا لتفكك جهاز الدولة وغلبة ما أسماها بعض الناشطين "المكوكية" على الإدارة التي لم يبق منها غير ذلك بعد ثورة وانقلابات ناجحة وفاشلة وحرب ضروس. والمك هو لقب يطلق على ملك عشائري في السودان، تؤول إليه كل السلطات ويفصل في جميع التخصصات.
في الولايات التي لم تصلها الحرب بعد، توجد إدارات درجت المعارضة على تسميتها بـ"حكومة الأمر الواقع"، وهو توصيف دقيق لأنها بالفعل فرضت لأغراض الموازنات التي تسمح ببقاء السلطة فاقدة الشرعية، دون وضع أدنى اعتبار لمعاش الناس واحتياجاتهم؛ تلك الأمور التي في الظروف الطبيعية هي المهام الرئيسة لأي نظام إداري من هذا القبيل.
تغلب على هذه الإدارات الطبيعة الأمنية والعمل على تثبيت السلطة المتزعزعة للجيش، فكانت معظم قراراتها واهتماماتها تنصب في هذا الجانب، حتى في التعامل مع النازحين الذين تسبب في نزوحهم نفس الهشاشة والسيولة التي أدت إلى سقوط السودان في درك الحرب.
لم تكن هذه السلطات بحاجة إلى فصل الخريف لكشف توجهاتها التي لا تهتم لأمر المواطن المغلوب على أمره، ولكن مياه الأمطار غسلت غباش الاعتياد، فجرفت السيول أي أمل في الحكومة القائمة مثلما جرفت خيم النازحين في مراكز الإيواء التي اختاروها بأنفسهم داخل المدارس وبعض المرافق العامة، دون أي رعاية أو التفات جدي من الحكومات القائمة، سوى المحاولات الجادة لترحيلهم خارج المدن حتى تستأنف العام الدراسي وتقول عندنا دولة وأمورنا عادية فوق كل هذا الخراب.
بالتزامن مع السيول والفيضانات المعتادة في فصل الخريف بالسودان، ضرب زلزالان البحر الأحمر على مسافة (200) كيلومتر من مدينة طوكر التي تعد من أكثر المناطق التي تعاني من التهميش في تاريخ السودان الحديث. اكتفت السلطات بتقرير إخباري صغير عن الأمر، ولكن لم يكن أحد يتوقع منها غير ذلك.
يواجه السوداني الأقدار الطبيعية وتلك التي من صنع البشر مجردًا من كل شيء منذ (15) شهرًا من الحرب التي قضت على الأخضر واليابس وتهدد الآن بالمجاعة عقب أن تمددت كالظواهر الطبيعية في المناطق الخصبة بالبلاد والتي كانت ترفد "قفة الملاح" بالطماطم والبصل والحبوب والبطاطس.
في ظل فشل حكومة الأمر الواقع في أداء مهامها -أو قل إنجازها فقط للمهام المطلوبة منها من قبل قادة النظام القائم- يتبقى للسوداني المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية. ولكن الأول مكبل بمصالح مشعلي الحرب الإقليميين، وعلى رأسهم الإمارات، مما ينعكس على الثاني التي تتأثر أيضًا بفشل السياسة الخارجية لنظام البرهان المتخبط، وضعف قدراته على المناورة، أو حتى التعامل الدبلوماسي العادي.
إن هذه الأرقام والإحصائيات عن الجوع والتشرد والنزوح متحققة في كل سوداني، فواحد من كل خمسة قد غادر منزله بالفعل، ونصف الناس جوعى في بلادي
في سودان اليوم، ملايين لا يملكون قوت يومهم ولا حتى مصادر دخل تضمن قوت بعض اليوم، يقفون عراة في مواجهة "عاصفة مثالية" من الظروف التي تعمل بلا كلل على إحالة حياتهم إلى جحيم كأنها ليست لديها مهمة أخرى. وفي الوقت ذاته، لا تلوح أي آمال في الأفق بأن الوضع القائم سيتغير في القريب العاجل، وهو -القريب العاجل- كل الوقت الذي يمتلكه هؤلاء النازحون قبل أن تنفد كل الحيل ويقل حماس "الشير" غير المستدام بطبيعة الحال.
إن التحذيرات من المجاعة والكوارث الطبيعية والوبائيات، على الرغم من أنها صارت معتادة بالنسبة للسودان لدرجة عدم التحسس، إلا أنها مخاطر جدية تتهدد حيوات الملايين ويعالج تبعاتها الملايين. هؤلاء أشخاص حقيقيون الذين يتعرضون لكل هذه الأقدار دون سند في عالم لا يبالي. إن هذه الأرقام والإحصائيات عن الجوع والتشرد والنزوح متحققة في كل سوداني، فواحد من كل خمسة قد غادر منزله بالفعل، ونصف الناس جوعى في بلادي.