سيول وفيضانات وأمطار غزيرة تغمر المدن والقرى، وشح المال، ومئات الآلاف من المواطنين على أعتاب الوبائيات خلال فصل الخريف، ومدارس معطلة، وتهديدات بتوسع رقعة الحرب في السودان، كل هذه العوامل ستكون سببًا في مضاعفة معاناة السودانيين في الأشهر القادمة.
للموسم الثاني، لم يصل آلاف المزارعين إلى حقولهم في مشروع الجزيرة
في الآونة الأخيرة، تتزايد نداءات التبرع للمطابخ الجماعية في العاصمة الخرطوم والولايات التي تستضيف النازحين، مما يعني أن تمويل هذه المراكز الطوعية قد يواجه خطرًا يهدد بتسريع وتيرة المجاعة.
يقول الشبان والفتيات المتطوعون في المطابخ الجماعية، التي تركز على أهم بندين: "الطعام" و"العيادات الصحية". "إن المال بات ينفد يومًا بعد يوم، ولدينا التزامات"، يقول هؤلاء المتطوعون، "على رأس كل ساعة يأتي أحدهم ويطلب قنينة دواء لمرض مزمن لا يمكن إرجاعه خالي الوفاض"، يضيفون.
في مطابخ جماعية يؤمها متطوعون بمدينة كسلا، عندما اجتاحت السيول مراكز الإيواء، حمل المتطوعون على عاتقهم العمل على سحب المياه مع عدم توقف المطابخ الجماعية طيلة شهر آب/أغسطس. ما زالوا يتوقعون عودة خطر الفيضانات.
شلل القطاع الخاص
تقول سوسن عبد الكريم، العاملة في منظمة دولية، لـ"الترا سودان": "إن السودان وصل إلى أسوأ مرحلة في تاريخه. الناس يعانون من شح المال وشبه توقف لصرف الأجور في القطاع العام، وشلل القطاع الخاص الذي يعتمد على استيراد السلع من دول الجوار وبيعها بأسعار فلكية، مما أدى إلى ركودها".
تقدر الأمم المتحدة عدد النازحين داخليًا وخارجيًا بحوالي (10) ملايين شخص، منهم خمسة ملايين على مقربة من المجاعة، ونحو (755) ألف شخص وصلوا فعليًا مرحلة الجوع الحاد. فيما تنفي الحكومة هذه التقارير وتتهم الدعم السريع بإفشال الموسم الزراعي بتوسيع رقعة الحرب وتشريد المزارعين وقتل المواطنين ونهب مستودعات الغذاء.
ناشطة: عدد النازحين واللاجئين السودانيين قد يكون وصل بالفعل إلى (15) مليون شخص
أماني حسن، التي تتابع حركة النزوح واللجوء، تشكك في الإحصائيات الصادرة من الأمم المتحدة، وتقول لـ"الترا سودان": "إن عدد النازحين واللاجئين السودانيين قد يكون وصل بالفعل إلى (15) مليون شخص"، وتضيف قائلةً: "إن السودانيين حملوا على عاتقهم مداواة جراحاتهم بشكل منفرد"، مشيرةً إلى أن الجوع يلاحق حتى من يتواجدون في دول الجوار في مخيمات تفتقر للخدمات الأساسية، أو يقطنون داخل المدن خارج البلاد، لأن المجتمع الدولي لم يوفِ بالالتزامات المالية سوى بمقدار (30%).
بين الحين والآخر، تراجع صفاء التبرعات التي تصل إلى المحافظ الإلكترونية، بينما ينشغل الشبان بشراء مستلزمات الطعام اليومية من متجر للسلع الإجمالي، لاعتقادهم أن الأسعار قد تكون أقل من متجر التجزئة. هي محاولة منهم لخفض النفقات اليومية حتى لا ينفد المال سريعًا.
تقاعس حكومي
لا تقدم الحكومة القائمة في ولايات واقعة تحت سيطرة الجيش خدمات بعينها لآلاف النازحين. حتى المواطنون في تلك المدن والقرى يشكون من عدم صرف الأجور لشهور طويلة، ويقابلون بشكل يومي ارتفاعًا كبيرًا في أسعار السلع الاستهلاكية. الغالبية منهم قاموا بتغيير خططهم والاكتفاء بوجبتين إلى وجبة واحدة خلال اليوم.
موجة الأسعار لم تتوقف منذ بداية الحرب، لكنها كانت تسير بشكل بطيء حتى انفلت سعر الصرف منذ آذار/مارس الماضي بارتفاع جنوني للدولار الأميركي في السوق الموازي لـ(2700) جنيه.
العاملة الطوعية: بعض النازحين نلح عليهم حتى يحصلوا على حصتهم من الغذاء، ويسألوننا: متى تنتهي الحرب؟ ونجيبهم: قريبًا
تقول صفاء، العاملة الطوعية في مدينة وادي حلفا شمال السودان، لـ"الترا سودان": "إن السودانيين اعتادوا على عيش حياتهم بسهولة في أسوأ الفترات، لكن خلال الحرب وتفاقم وضع النازحين أو المواطنين في المدن الآمنة نسبيًا، لم يعد هناك متسع لعيش الحياة الاقتصادية من الحد الأدنى، لأن القليل الذي بحوزتهم لم يعد متاحًا".
وتضيف: "السودانيون بطبيعتهم متعففون لا يحبون طلب الطعام. بعض النازحين نلح عليهم حتى يحصلوا على حصتهم من الغذاء، ويسألوننا: متى تنتهي الحرب؟ ونجيبهم: قريبًا".
لا توجد أجور
في محادثات غير مباشرة بين وفد من الحكومة ووفد من الدعم السريع في جنيف الشهر الماضي، واجه الطرفان لومًا ساخنًا من الأمم المتحدة حول عرقلة الإغاثة أو عدم إيصالها إلى المستحقين.
يقول أحمد فوزي، الذي يقطن في مدينة دنقلا، لـ"الترا سودان": "إن التضخم انعكس على حياة المواطنين. بإمكان الشخص أن يحمل معه حزمة من النقود لشراء احتياجات صغيرة تحملها في يدك أثناء العودة إلى المنزل".
وأضاف: "الأجور لمن يحصلون عليها، وهم فئة قليلة في القطاع العام، لا تتجاوز (150) ألف جنيه، ما يعادل (40) دولارًا أميركيًا، ولا تغطي نفقة ثلاثة أيام لشراء الغذاء وتعبئة الغاز وسداد الفواتير".
أما من يدفعون الإيجارات الشهرية، وهم مضطرون، يرى فوزي أن تدبير شأنهم المالي يحتاج إلى معجزة. البعض منهم يبيع سيارته للبقاء في المنزل المُستأجر، ويضمن مثلًا ستة أشهر ببيع سيارته بقيمة عشرة مليون جنيه.
يتعهد قادة الجيش باقتراب حسم الحرب لصالح القوات المسلحة، وأثناء هذه التصريحات، غادر المواطنون نزوحًا نحو خمس مناطق في ولاية سنار، فيما يهدد تمدد الحرب أكبر مدينتين، وهما الفاشر في شمال دارفور والدمازين في إقليم النيل الأزرق.
توقف المشروع
المشروع الزراعي الأكبر في ولاية الجزيرة أصبح خاليًا من حركة الجرارات والشاحنات وأنشطة المزارعين، أولئك الذين يأتون من البيوت لفلاحة الأرض وزراعة القمح والفول السوداني والقطن والعدس.
لم تتمكن قوات الدعم السريع، التي تسيطر على أجزاء واسعة من ولاية الجزيرة، من تمكين المزارعين من الذهاب إلى الحقول. وتقول لجان المقاومة إن عشرات المزارعين قتلوا رميًا بالرصاص على يد هذه القوات.
للموسم الثاني على التوالي، لم يصل عشرات الآلاف من المزارعين إلى حقولهم في مشروع الجزيرة، خاصة المناطق الواقعة شمال وشرق وغرب الولاية. ولم تعلق الدعم السريع على فشل الموسم الزراعي، وتقول تقارير إنها حولت بعض المساحات إلى معسكرات تجنيد.
عدم توقف الحرب يعني نزوح (20) مليون شخص قبل نهاية العام الحالي، لأن القتال لن يقف مكتوف الأيدي وسيمتد إلى مناطق أخرى
ومع انسداد الأمل نحو تفاوض بين الجيش والدعم السريع لإسكات البنادق وإعادة الأمور إلى وضع معقول نسبيًا، حسب نهلة حسن، الباحثة في الشأن الإنساني، فإن المتوقع تفاقم معاناة المواطنين وتزايد حركة اللجوء إلى دول الجوار والإقليم.
وتقول نهلة حسن لـ"الترا سودان": "إن عدم توقف الحرب يعني نزوح (20) مليون شخص قبل نهاية العام الحالي، لأن القتال لن يقف مكتوف الأيدي وسيمتد إلى مناطق أخرى".
وتابعت: "عدم توقف الحرب أيضًا يعني بداية تدويل مباشر وصريح للصراع المسلح في السودان، ويعني دخول أطراف دولية وإقليمية علنًا، كلٌ يبحث عن كيكة من المصالح في بلد ممزق".