بعد صراعٍ استمرّ طويلًا مع المرض، رحل المغني عثمان مصطفى، في ذات الشهر الذي وُلد فيه قبل أربعٍ وسبعين عامًا "نوفمبر ١٩٤٦-نوفمبر ٢٠٢٠م". مخلفًا وراءه تجربةً تخصه، وصيتًا في انتاج القليل من الأغنيات ذات الأثر الكبير، والقيمة الفنية العالية، تأتي في مقدّمتهن فريدته: "ماضي الذكريات".
ينتمي عثمان مصطفى إلى قائمة المغنين الذين أسندوا تجربتهم الغنائية بالدراسة الموسيقية الأكاديمية
ينتمي عثمان مصطفى، واسمه الحقيقي هو: محمد عثمان مصطفى سليمان، إلى قائمة المغنين الذين أسندوا تجربتهم الغنائية بالدراسة الموسيقية الأكاديمية المنضبطة، شأنه في ذلك شأن الراحل، العاقب محمد الحسن. وزاد عليه أنه تخصص في البيانو والصوت ضمن أول دفعة تدرس في المعهد العالي للموسيقى والمسرح عقب تأسيسه في 1969. وتخرج منه وتمّ اختياره ليكون أستاذًا، بعد تفوقه على دفعته. ساعده في ذلك جرعات وافرة تلقاها في الصوت على يد الإيطالي ماسترللي.
اقرأ/ي أيضًا: أحمد المصطفى.. العميد
ولد بروفيسور عثمان مصطفى بمنطقة الرميلة بالخرطوم، في أسرةٍ لها صلة بالتدين والتصوف، وعليه تأثرت أذنه باكرًا بسماع أصوات المنشدين وإيقاعات المتصوفة. ثم رويداً رريدًا اندمج في التأدية معهم، بجانب ترديد بعض أغنيات الحقيبة، وبعض أغنيات المغني محمد وردي. وهذه الفترة بالذات لفت أقرانه طريقته الجيدة في الأداء فاستحسنوها وصاروا له مشجعين للمضي في هذا الطريق.
وعلى سيرة محمد وردي، فللرجل يد طولى في مسيرة المغني عثمان مصطفى، وفي الأخذ بيده، إعجابًا بصوته وأدائيته، وكذا بقدرته على ترديد أغنياته. ولذا فقد منحه أولى الأغنيات بعد أن لحنها: "والله مشتاقين"، من كلمات إسماعيل حسن.
ولم يقف عند حد منحه الأغنيه، بل سعى حثيثًا لتقديمه للإذاعة السودانية لتسجيل الأغنية، بعد أن وضع لها مقدمةً موسيقية، على طريقة أغنيات الستينيات، ونزولًا عند اشتراطات برعي محمد دفع الله بأن لا تُسجّل أغنية في الإذاعة إن لم تُوضع لها مقدمةً موسيقيةً، وقد كان.
أغنية "والله مشتاقين"، لم تكن الأغنية الأولى لعثمان مصطفى، وإنما العتبة الأساسية التي وقف عليها وانطلق فيما بعد. وكانت الفتح الكبير بالنسبة له. حيث انهالت طلبات مستمعي الإذاعة السودانية عبر برنامج "ما يطلبه المستمعون"، تنشد كلها سماع الأغنية الجديدة "والله مشتاقين"، للصوت الجديد: عثمان مصطفى.
ثم أتت بعدها بفترةٍ أغنية: "ماضي الذكريات"، من كلمات الجيلي محمد صالح، وتلحين: موسى محمد إبراهيم. وهي أغنية على سياق اللحن والكلمة والأداء، يعتبرها مهتمون كُثر بمسيرة الأغنية السودانية علامةً كبيرةً ومهمة. بسبب انتقالاتها الموسيقية، ولحنها الذي منح صوت عثمان مصطفى مساحات وافرة للتحرك، ولا يغيب عن ذلك الكلمات الرصينة للأغنية نفسها. فأتاحت لعثمان مصطفى مجالات جديدة للسماع، والانتشار، والقبول.
وعلى سيرة الانتشار أيضًا، فأغنيات عثمان مصطفى جيدة الانتشار في دول إفريقية عديدة، مثل: إريتريا، إثيوبيا وتشاد، والصومال. وسبب ذلك أن عثمان مصطفى أوفدته منظمة اليونسكو، للعمل مدربَا للموسيقى بالعاصمة الصومالية مقديشو، وما تزال تسجيلاته بإذاعتها هناك. حيث تمّ إيفاده لتدريب وتعليم الموسيقى هناك. بل له الإسهام الكبير في وضع مناهج للموسيقى. وليس غريبًا أن أغنياته ما تزال تُسمع في الصومال أو في إريتريا. ويحكي مقربون من تلك الفترة أنّ الذين كان يُدّريهم عثمان مصطفى على الصوت أو على آلة البيانو، كان يُسابقون حصص الموسيقى للانتهاء، حتى يطلبوا في آخرها من عثمان مصطفى أنْ يؤدي لهم واحدة من أغنياته، أو من الأغنيات السودانية الرائجة وقتها، لفنانين سودانيين في قامة محمد وردي مثلًا.
بالرغم من أنّ أغنيات عثمان مصطفى المسجّلة في الإذاعة السودانية، والتي يعرفها له الناس، لا تتجاوز الثلاثين بكثير، إلا أنّها وعلى قلّتها يُشار إليها ببنان القبول والإعجاب، لطريقته المنضبطة في تقديمها وأدائها، وكذا في اختياراتها من قبل، وفي ألحانها وموسيقاها الممتلئة من بعد.
وبجانب أغنياته، فقد قدّم عثمان مصطفى العديد من الأغنيات المسموعة بطريقته. تتبدى في ذلك، أغنيتين وطنيتين لخليل فرح: "عزة في هواك"، و"الشرف الباذخ". بجانب عدد قليل من أغنيات الحقيبة. يبدو أنّه عندما يختار أداء هذه الأغنيات المسموعة، يختار التي فيها مساحة لصوته الأوبرالي، ليتحرك في مساحات الأغنيات ما يشاء. ولا يجب المغادرة في سيرة الأغنيات الوطنية التي ظهرت فيها ملكات عثمان مصطفى الصوتية، بغير الإشارة إلى مشاركة في أداء "ملحمة أكتوبر"، بمعية: محمد الأمين، أم بلينا السنوسي، خليل إسماعيل، وبهاء الدين أبو شِلّة.
عمل المغني عثمان مصطفى، مدرسًّا للصوت والبيانو، بكلية الموسيقى والمسرح، وتخرّج على يدي علمه ومعرفته العديد من الأصوات الفنية، والمغنين الذين تلقوا دورات في الموسيقى بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح، وكذا عند تحوّله إلى كلية الموسيقى والدراما. وعُرف عنه إيمانه ومحبته للتجديد في الموسيقى، وتشجيعه الوافر للتجارب الموسيقية والغنائية، في حالتي: فرقة عقد الجلاد الغنائية، ومجموعة السمندل الموسيقية.
اقرأ/ي أيضًا: "سينما الجيران" في الخرطوم
صحيح أنّ المغني عثمان مصطفى، لا يُحسب ضمن مغنيي حقبة الستينيات وافري الإنتاج الغنائي، ولا من ضمن المغنيين الذين لديهم تجربة التلحين لأعمالهم وهو أمر لافت، خاصة وأنّه موسيقي، وبارع في الموسيقى، إلا أنّه غالب أعماله الغنائية متميّزة، وصادقة، وفيها الاجتهاد الفني والأدائي. ويأتي في قائمة الذين تعامل معهم من الشعراء والملحنين: الجيلي محمد صالح، إبراهيم الرشيد، إسحق الحلنقي، عبد اللطيف خضر، وموسى محمد إبراهيم. كما تأتي في قائمة أعماله الغنائية: ما بعاتبك، راح الميعاد، فيها إيه، وبالطبع: ماضي الذكريات.
عبر تجربته في مجالات الأداء الغنائي والتدريس الموسيقى، استحق عثمان مصطفى العديد من الأوسمة والجوائز
عبر تجربته الممتدة والوافرة في مجالات الأداء الغنائي والتدريس الموسيقى، استحقّ المغني عثمان مصطفى العديد من الأوسمة والجوائز التقديرية، أبرزها: وسام العلم والأداء والفنون بالسودان، في العام 1975، وجائزة تقديرية من رئيس دولة جيبوتي، بداية التسعينات.
اقرأ/ي أيضًا