في كلِ مرةٍ وأخرى، يتعرّض فيها أحد الفنانين السودانيين؛ لظروف المرض، تنهضُ المقولات التي يحملها الإعلام بشقّيه: التقليدي والحديث، بوجوب التكفل بعلاجه ورعايته. وتنطلقُ المقولات الافتراضية، للحكم القاطع، بأنّ واجب الدولة والمجتمع معًا، رعاية هذا المبدع أو ذاك، وعلاجه، حتى يشفى.
وينطبق ذات الأمر في حالات فقدان المسكن، وغيرها من معاناة الحياة العادية لملايين السودانيين. فهل صحيح أنّ الواجب يُحتّمُ دعم المبدعين ورعايتهم؟ ومن قال ذلك؟
إزاء ما ظلّ يتكرر في حالات المبدعين السودانيين الذين عانوا في أخريات حياتهم، فهنالك آراءٌ تقول بواجب الدعم والرعاية، وأخرى تقول بأنّ في الأمر تمييزٌٍ ما
تجددتْ هذه العبارات، هذه الأيام، بسبب حالتين: الأولى، المرض المتطاول للمغني عبد الرحمن عبد الله، الملقب بـ"بلوم الغرب"، استمرّ لعقودٍ طويلةٍ. ما تستقرُ حالته، إلا وتتدهور مرةً أخرى. أما الحالة الثانية، هي أيضًا مرضيّة، وهي للمغني: عثمان مصطفى، الذي حاصرته آلام وأوجاع السكّري، فأنهكتْ روحه البشّاشة، وصوته العاتي.
اقرأ/ي أيضًا: رثاء الشاعر للشاعر.. فضيلي جماع في وداع إدوارد لينو: "دمع عتابك أخجلنا"
وتواريخ المبدعين السودانيين الذين عانوا في أخريات حياتهم كثيرة، يقف على رأس هؤلاء في الفترة القريبة الأخيرة، المغني أبو عبيدة حسن، والمغني إبراهيم حسين، الذي عانى كثيرًا من المرض في سنوات حياته العشر الأخيرة. وليس في قائمة المغنين لوحدهم، وإنّما تقف حالة التشكيلي بهنس الذي عانى من المسغبة وأوجاع المرض، حتى مات مأسوفًا على شبابه وإبداعه.
غالب هؤلاء انتظمتْ حملات المطالبات برعايتهم، ودعمهم حتى يخرجوا من حالاتهم الإنسانية. ومنهم من لقيت الحملات التي انتظمتْ له الاستجابة، ومنهم من لم تلقَ.
وإزاء ما ظلّ يتكرر في حالات المبدعين السودانيين، فآراءٌ تقول بواجب الدعم والرعاية، وأخرى تقول بأنّ في الأمر تمييزٌٍ ما. إذ أنّ شرائح عديدة غير المبدعين تستحقُ الرعاية والدعم، كان ذلك من الدولة أو المجتمع.
اقرأ/ي أيضًا: كورونا على طاولة الأدب
وللحق، فحالات النهاية المأساوية للمبدعين السودانيين -والمغنيين محسوبون بينهم- لا تُحصى ولا تُعد. وبذات القدر، فإنّ حالات الاستغاثة المجتمعية، بواجب دعم ورعاية هؤلاء المبدعين، لا تُحصى ولا تُعد هي الأخرى. ففي ذهن كثيرين، فإنّ على الدولة والمجتمع معًا رعاية المبدعين. ومن هؤلاء المغني الشاب أبو بكر سيد أحمد، الذي يرى بأنّ سؤال: "دعم ورعاية المبدعين، من قال ذلك؟"، سؤالٌ معقدٌ بالنسبة له. لكنه يُجيب عليه سريعًا بأنّ ذلك من (أوجب واجبات الدولة والمجتمع، لأنّ لهم فضلٌ على وجدان الناس).
يوسف حمد: أنا ضد أي مناسبة من شأنها أن تخلق التقارب بين المبدعين والمثقف، من جهة، والسلطة أو الدولة من جهةٍ ثانية
وبرّر أبو بكر سيد أحمد في حديثه لـ"ألترا سودان" بأنّ أسباب افتراضه عديدة، منها أنّ المبدعين عمومًا، الوحيدون في السودان الذين لا يتلقون راتبًا شهريًا، ولا ضمانًا اجتماعيًا، ولا تأمينًا صحيًٍا، ولا حتى معاش. وبالتالي فهم فئةٌ تتعرض في الغالب لمشكلاتٍ صحية، وتُعاني معها.
يوسف حمد، الكاتب والمهتم بالشأن الإبداعي، لديه وجهة نظر مغايرة، من زاوية مغايرة. فهو يرى ابتداءً أنّ (الدولة لا تصنعُ الثقافة ولا الإبداع، وأي تدخل منها هو محاولة جادة لفرض سيطرتها، لذلك من الأفضل أن تقف بعيدًا). وهي المقولة التي أسّس بها إفادته لـ "ألترا سودان"، لينطلق منها إلى مقولةٍ أخرى وهي أنّه (ضد أي مناسبة من شأنها أنْ تخلق التقارب بين المبدعين والمثقف، من جهة، والسلطة أو الدولة من جهةٍ ثانية).
يوسف يعتقد بأنّ الدولة الموروثة من الاستعمار، من طبيعتها أنّها لا ترضى بأنْ يعيش أي كيانٍ، مهما صغُر أو كبُر -والمبدعون جزءٌ من هذه الكيانات- خارج هذه سلطة الدولة الاستعمارية. وهي تستخدم المبدعين بشكلٍ دعائي، وغير بريء.
من هذه المقولات، ينطلق يوسف حمد، للتأسيس لفك المبدعين من أسار الدولة والسلطة، وذلك، عبر: (تحويل المنتج الإبداعي إلى سلعةٍ تجلب الرزق، واعتبار أنّ الغناء وكتابة الشعر والموسيقى وغير ذلك من الفنون، مجرد أدوات ووسائل انتاج، وبذلك سيتحقق للفنان الإفلات من الاغتراب الذي حذّر منه ماركس).
أصحاب الآراء المعارضة لوجوب دعم الدولة للمبدعين ورعايتهم لهم، ينطلقون من منطلقات عديدة، منها أنّ المبدعين هؤلاء والمغنين منهم، لم يلتفتوا لأنفسهم، أيام شُهراتهم وأمجادهم، إلا بعد أنْ جارت عليهم أيّامهم، ولم يحدث ذلك عندما كانت أحوالهم ميسورة.
يعود المغني أبو بكر سيد أحمد، ليرد على هذا الرأي بأنّ المغنين (في أي زمانٍ ومكان، فإنّ الفنانين أصحاب الدخول العالية محدودون، وهم استثناء، أما الغالب للمشتغلين في مجال الفنون فهم عاديون جدًا، ومعتادٌ جدًا أن تسمع أنّ الفنان فلان أو غيره يُعاني من مرض، ولا يستطيع مقابلة مصاريف العلاج وربما مات بسبب هذا المرض).
اقرأ/ي أيضًا: مع استمرار الإغلاق.. نصائح للتسوق الإلكتروني وتفادي الاحتيال
صندوق رعاية المبدعين، الذي يقف على رأسه، الشاعر عبد القادر الكتيابي، المعيّن حديثًا، وقبل أنْ يُعلّق على القضية، أورد ما يشبه حال المبدعين. حيث قال الكتيابي لـ"ألترا سودان": (استلمتُ من سلفي الأمين العام السابق، بيتًا متهالكًا، في أحد أزقة أحياء الخرطوم، عليه لافتة قديمة وخمسة موظفين، وأربعة كمبيوترات متخلّفة، وأثاثٌ مستهلكٌ وسيارتان قديمتان؛ صُرف على صيانتهما حسب المستندات ما يُساوي قيمة شرائهما).
يواصل الكتيابي: (ولم أكد أمضي يومين على كرسي الأمين العام، حتى داهمني مالك العقار مطالبًا بدينٍ متبقٍ وإيجاره الجديد، والخزينة خاليةٌ تمامًا طبعًا). وعليه، فإنّ الكتيابي يرى بأنّ الدولة أولى من المجتمع بدعم المبدعين، لوجستيًا وماديًا.
وبين اللافتتين: وجوب دعم المبدعين ورعايتهم، وأنّ هذا الأمر لا علاقة له بالمجتمع، ولا الدولة به؛ يُعاني المبدعون جملةً من الأحوال، منها ما هو بكسبهم، ومنها ما بكسب وسبب الظروف.
اقرأ/ي أيضًا:
سكاكر البنات السرية.. دواء غانيات بنغلاديش الذي قد يعالج كورونا