05-يونيو-2024
العاصمة القومية الخرطوم

بالرغم من توفر العديد من الطرق للخروج من العاصمة الخرطوم بعد تصاعد المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، إلا أن العديد من المشاهير فضلوا البقاء في منازلهم ومشاركة المواطنين معاناتهم، من بينهم الفنان أبوعركي البخيت الذي كان يعيش في أم درمان، والفنان طه سليمان الذي كان يحضر الوجبات مع شباب حي شمبات في بحري، والفنان عاطف السماني، بالإضافة إلى آخرين.

في هذا الصدد، يقول مدير البرامج السابق للتلفزيون القومي، السر السيد، إن هؤلاء المشاهير بينهم فنانون ورياضيون، ولكن هناك تركيز على الفنان أبوعركي البخيت وشيخ الأمين، وذلك بسبب ما لهما من تماس مع السياسة، خاصة أبوعركي، إذ أعرب أكثر من مرة عن وجهة نظر سياسية وموقف خلال حكم الإنقاذ، كمقاطعته المعلنة للأجهزة الإعلامية الرسمية.

الدوافع والمحفزات

ويرى السيد، في حديثه مع "الترا سودان"، أن الدوافع تختلف من شخص إلى آخر، فمنهم من بقي داخل الوطن لخدمة المواطنين كشيخ الأمين وطه سليمان، ومنهم من بقي لقناعته بدعم الجيش ولو معنويًا كالفنان كمال ترباس وعاطف السماني، ومنهم من بقي لأن له موقف مبدئي من الحرب نفسها مثل أبوعركي البخيت، والذي يقف على مسافة من كل الأطراف.

مدير البرامج السابق للتلفزيون القومي، لـ"الترا سودان": المشاهير، خاصة شيخ الأمين وعركي وطه، جسدوا شهادة ناصعة ضد الحرب وحرجًا بالغًا لمشعليها.

ويشير السر السيد إلى أن المؤيدين للجيش يحترمون من بقوا في العاصمة في صفوف الجيش، بينما ينظر الرافضون للحرب إلى هذا البقاء بانتقاد عندما يرتبط بأحد الأطراف، كحالة شيخ الأمين عند علاقته بالدعم السريع ثم علاقته بالجيش، مع ملاحظة أن العلاقتين فرضتهما ظروف لوجستية لخدمة المواطن، بالإضافة إلى حالة أبوعركي عندما ظهرت له صورة مع فرد من الدعم السريع ثم صورة مع قائد كتيبة البراء بن مالك، وأخيرًا صورة مع ياسر العطا، واعتبر أن هذه المواقف لم تكن تعبر عن كل المواطنين، إذ انصبت التفاعلات من مؤيدي الجيش ومن الرافضين للحرب.

وقال مدير البرامج السابق للتلفزيون القومي، إن المواطن الذي ينظر للحرب كمهدد لحياته دون حتى النظر لمشروعيتها أو عدمها، فقد تعامل في الغالب مع الموضوع بحيادية، لافتًا إلى أن التأثير المباشر لهؤلاء المشاهير على المواطن هو تقديم مساعدات كبيرة للباقين في أرض المعركة من حيث المأوى والطعام والعلاج والدعم النفسي في واقع وصفه بـ"البشع". وأن هؤلاء المشاهير، خاصة شيخ الأمين وأبوعركي وطه سليمان، جسدوا شهادة ناصعة ضد الحرب وحرجًا بالغًا لمشعليها، كما أشاروا بطريقة غير مباشرة إلى أساليب فعالة في المقاومة والاحتجاج ضد الحرب، واعتبروها أسلوبًا فعّالًا ومنتجًا وأفضل بما لا يقارن من الرموز الذين اختاروا عدم البقاء في الوطن.

الجانب النفسي للبقاء

أما الاستشارية في علم النفس د. ابتسام محمود، فتعتقد أن بقاء المشاهير في العاصمة رغم اشتداد المعارك يتوقف على الدوافع والمناشط التي يقوم بها الفنانون في أماكن تواجدهم. وأضافت أن لديهم دورًا محفزًا جدًا بالنسبة للمواطنين.

وأشارت ابتسام، في حديثها مع "الترا سودان"، إلى أن المواطنين يشعرون بالأمان في وجود هؤلاء المشاهير، بالإضافة إلى وجود بعض المناشط الترفيهية التي تمثل نوعًا من الترويح عن النفس نتيجة للحرب والضغوط التي يعاني منها الناس والمخاوف. وأشارت إلى أن تواجدهم في أماكن آمنة يجعل وجودهم مفيدًا للمواطن أكثر من وجودهم في أماكن خطر.

وترى استشارية علم النفس أن الدافع لبقاء المشاهير في الخرطوم وكيف يصبح وجودهم مفيدًا وسط المجتمع أو بين الجيش، يتوقف على النشاط الذي يقوم به المشهور والهدف من بقائهم والدعم المعنوي الذي يقدمه.

العاطفة الوطنية

ويقول الروائي السوداني منصور الصويم إن خيار الخروج من الخرطوم أو مناطق النزاع الأخرى يخضع لظروف معقدة جدًا بالنسبة للأغلبية من السودانيين، من ضمنها الحالة المالية، والقدرة على التحرك والسفر والانتقال إلى بلد آخر في ظل وضع اقتصادي متدهور لم ينجُ منه أحد. ويضيف أن الأمر بالنسبة للمشاهير، يختلف قليلاً في هذه الناحية، بافتراض أن بإمكانهم تجاوز العقبة المالية.

منصور الصويم: من التعقيدات التي واجهت الكثير من الأسر السودانية في مسألة الخروج من العاصمة أو المدن والمناطق الأخرى، ما يمكن أن يوصف بمتلازمة الارتباط بالمكان، لا سيما لكبار السن

ويرى الصويم، في حديثه مع "الترا سودان"، أن هناك جانبًا آخرًا من التعقيدات التي واجهت الكثير من الأسر السودانية في مسألة الخروج من العاصمة أو المدن والمناطق الأخرى، وتتعلق بما يمكن أن يوصف بمتلازمة الارتباط بالمكان، لا سيما لكبار السن. وهذا الارتباط -وفق منصور- يمكن قراءته أيضًا في باب التعلق بالوطن "العاطفة الوطنية". مضيفًا أن هناك الكثير من المشاهير يندرج موقفهم ضمن هذا التصنيف.

ويعتقد الروائي السوداني أنهم يقدمون كل الممكن لمساعدة الآخرين، سواء في معسكرات النزوح، أو عن طريق دعم المطابخ المركزية مثلما عرف عن الفنان طه سليمان. ويشير إلى أن الذين اختاروا البقاء في السودان، فعلوا ذلك رغم شراسة الحرب، من ضمنهم الفنان أبوعركي، الذي ظل صامدًا في منزله بأم درمان لأكثر من عام في ظل أعنف المعارك بين الجيش والدعم السريع.

ويوضح الصويم أن الفنان أبو عركي البخيت ملتزم وصاحب مواقف مبدئية، حيث يأتي خياره انحيازًا لـ"الغبش"، أن يبقى مع أهل بلده، وأن يواجه ما سيواجهونه، وأن يهبهم بشكل ما دافعًا على الصمود وعدم الانكسار، فهو "منهم وإليهم"، حسب تعبير الروائي السوداني.

ويقول الصويم إن للفنان والمثقف السوداني على مر العصور مواقف مبدئية ملهمة ومحفزة، مشيرًا إلى جهود الروائي والقاص الهادي راضي في دعم المطابخ المركزية ومراكز النازحين في كوستي، وما يقدمه المخرج المسرحي ربيع يوسف من عروض مسرحية مجانية لصالح النازحين في مدني وبورتسودان وغيرها من المدن.

ويُشير إلى ممثل آخر معروف يغامر بنفسه حين يظهر في مقطع فيديو مناشدًا الوقوف مع أبناء منطقته. مؤكدًا أن الصمود في مناطق النزاع ومساعدة الناس في دور الإيواء هو أمر عظيم ومحفز لكل سوداني لديه عاطفة ومحبة لوطنه.

مواطنون ومشاهير

المشاهير هم في المقام الأول مواطنون، وقد يتعرضون مثلهم مثل عامة الناس للأضرار من الحرب الجارية. وقد قتلت ابنة مدرب المنتخب الوطني ورمز نادي الهلال التاريخي، قلب الأسد فوزي المرضي جراء رصاصة طائشة في أم درمان، الأمر الذي أودى بحياته هو أيضًا بعدها بأيام إثر نوبة قلبية كان لوفاة ابنته وإصابة زوجته دور فيها.

كما نشر بروفيسور الهندسة بجامعة الخرطوم شريف بابكر مجموعة من الصور له وهو يقوم بنقل المياه من بئر أعيدت للخدمة في شمبات بالخرطوم بحري عقب توقف الإمداد المائي جراء الحرب. أثارت هذه الصور عاطفة الكثير من المتابعين الذين يتابعون الأوضاع المأساوية التي تردت إليها العاصمة القومية وما ترتب على المواطنين من ذلك.

ستظل آثار الحرب السودانية لسنوات وسنوات في مناطق الاشتباكات وحتى مدن النزوح. ولا يتوقع لها أن تنتهي في القريب العاجل ما يؤكد من ازدياد فداحة التكلفة على الشعب السوداني الذي يعاني الأمرين منذ أكثر من عام.