منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بنظام البشير و"الكيزان" الذين ذهبوا إلى مزابل التاريخ غير مأسوف عليهم كانت المرأة السودانية حاضرة في جميع المواكب والفعاليات وتتقدم صفوف المحتجين. الثورة الأخيرة في السودان كانت بحق ثورة المرأة التي ناضلت خلال الثلاثين عاماً الماضية ضد نظام كان يستهدفها ويحط من شأنها بل شرع لذلك القوانين التي تنتهك حريتها وتهين كرامتها مثل قانون "النظام العام" وقانون الأحوال الشخصية وغيرها من المواد المدسوسة في القوانين الأخرى. كل ما تقدم ذكره دفع بنساء السودان للثورة ضد منظومة كاملة من الأفكار والمعتقدات التي تسجن الأنثى ضمن إطار ضيق ولا تسمح لها بالحديث عن معاناتها وحقوقها بصوت مسموع .
مع تباشير المرحلة الانتقالية ساد رأي مفاده أن النظرة العامة تجاه "البنت السودانية" يمكن أن تتغير ونشهد عهداً جديداً خاليًا من العنف والتحرش بأجساد النساء
مع تباشير المرحلة الانتقالية ساد رأي مفاده أن النظرة العامة تجاه "البنت السودانية" يمكن أن تتغير ونشهد عهداً جديداً خاليًا من العنف والتحرش بأجساد النساء، لكن الطالبة ساريا فجرت مفاجأة من خلال صفحتها بـ"فيس بوك" حين سردت وهي الطفلة ذات (16) ربيعاً وقائع تحرش أحد المعلمين بها داخل جدران المدرسة مع علم بقية الطالبات. تصرفت ساريا ونشرت الحادثة للرأي العام قبل أن تلجأ لأسرتها ومدير المدرسة لحل المعضلة. تباينت ردود الفعل حول هذا التصرف، وفي تقديري المتواضع فإن ساريا خيراً فعلت بنشرها للخبر وذلك لعدة أسباب: يحتمل إذا تم حصر المسألة داخل الأسرة والمدرسة أن يجري تسويتها بشكل بسيط دون أن يتعرض المعلم للمساءلة أو توجيه إنذار له، من جانب آخر فتحت ساريا الباب واسعاً لتداول قضية التحرش داخل المؤسسات التعليمية الرسمية منها وغير الرسمية مثل الخلاوي وغير ذلك وهي مدارس تعليم ديني واسعة الانتشار في السودان. كما أننا كمثقفين يجب أن لا نلقي اللوم على الضحايا في رد الفعل وطريقة عرض القضية أو الحوادث التي تعرضوا لها، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حالة الصدمة التي يتعرض لها ضحية التحرش، خصوصاً الضحايا من الأطفال، وماهية الدفاع عن النفس التي تتخذ أشكالاً عدة عند التعبير عنها.
اقرأ/ي أيضًا: صراع السودانيات لأجل الحقوق الأساسيّة.. خطوة للأمام وخطوتان للخلف
قضية التحرش من أصعب القضايا التي تواجه المرأة حيث من الصعب إثباتها وإحضار دليل قاطع عليها بما في ذلك الشهود ، ويختلف التحرش عن الاغتصاب الذي يسهل إثبات وقوعه من خلال الكشف الطبي على الضحية. لكن هذا لا يعني التساهل تجاه هذه القضية الشائكة أو عن تقديم المتحرشين لمحاكمات عادلة، الأمر الذي يقتضي تغيير القوانين وسن أخرى جديدة، تدرج التحرش من ضمن مفاهيم الاعتداء على المرأة لنواكب التغيير الكبير الذي تمر به البلاد. على الرغم من أن النظام البائد ذهب مع الريح لكن لا تزال كثير من المفاهيم الخاطئة التي رسخ لها متواجدة داخل عقول بعض الأفراد والمجتمعات، ولا يزال الكثير من الناس ينظرون للمرأة باعتبارها متهمًا وهي من حركت دوافع الجاني ليتحرش بها أو يلحق بها الأذى ويكون اللوم على مظهرها الخارجي وملابسها وهي أقوال باطلة ما عادت تسري في هذا العهد الجديد.
قصة ساريا ليست قصة فردية للتحرش، وإنما هي وتجربة ترقد مدفونة عميقا في نفوس للعديد من نساء السودان وإن بدرجاتٍ مختلفة من تحرش وقهر واغتصاب وعنف وأذى!
صحيح أن نساء السودان وخاصة في مناطق الهامش تعرضن للاغتصاب في قرى كاملة، وهناك ضحايا لم يجدن بعد المنابر العامة ليسردن تجاربهن، إلا أن الوقفة الكبرى التي حدثت خلال هذه الأيام ضد التحرش، تفتح المجال واسعاً لبحث هذه القضية، من جانب المختصين ومحاولة إيجاد حلول تحد من انتشارها. من جانبي أتفق مع الرؤية القائلة أن المدارس يجب أن تحتوي على كاميرات مراقبة وكذلك في الشوارع العامة حيث يسرح المتحرشون ويمرحون، إلى جانب التوعية وهي السلاح الأقوى. ففي الأخير، قصة ساريا ليست قصة فردية للتحرش، وإنما هي وتجربة ترقد مدفونة عميقا في نفوس للعديد من نساء السودان وإن بدرجاتٍ مختلفة من تحرش وقهر واغتصاب وعنف وأذى، تجربة تعمل على تشويههن نفسياً وإعاقة مساهمتهن في تنمية وتقدم الوطن الذي ناضلن من أجله.
اقرأ/ي أيضًا:
خارج حدود السينما.. داخل حدود السياسة
سؤال الأمل وأزمة القيادة في زمن الثورة