الانصرافي هو مؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي في السودان، وينشط عبر العديد من الصفحات والوسائط في بث رسائل سياسية منذ أعوام. يتميز الانصرافي بأنه ينشر مقاطعه الحية عبر الصوت فقط، ولم يكشف عن هويته قط. يحرص الإنصرافي على إخفاء هويته الحقيقية، ويحاول بكل الطرق تمويه نفسه وإخفاء أي معلومات تدل على شخصيته خارج مواقع التواصل.
بزرت شخصية الإنصرافي بشكل أكبر خلال الحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ عام ونيف في السودان. يبث هذا المؤثر تسجيلات ذات وصول كبير، ويتابعها مئات الآلاف يوميًا في "لايف الانصرافي". لايفات الانصرافي التي يبثها منذ بداية الحرب وحتى لايف الانصرافي اليوم، جميعها تدعم الجيش السوداني.
تاريخ الخفاء
اختصر الانصرافي تاريخ التخفي الذي مارسته ذواتٌ سياسية مائزة في السودان، من لدن محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي وحتى علي كرتي أمين الحركة الإسلامية المكلف، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. بينما لم تزل طائفة من الأنصار تعتقد حياة إمامها الهادي في مكان ما، غار نائٍ أو سرداب مجهول أو كهف سحيق. ومن أقدار المفارقات الساخرة أن شخصًا ككارلوس عاش حياته متخفيًا عن أجهزة الاستخبار الغربية ليجد نفسه في قبضة أجهزة أمن البلاد التي أخرجت الانصرافي.
لم يشأ الانصرافي أن يظهر صورة في عهود التدوين الصوتي وغلبة البودكاست، مستعينًا بجوهر الخطاب عن عرض الصورة وبريقها
بدت حالات الخفاء في أعلى مراتبها أو أدناها حمايةً لذوات فاعلة بالتاريخ من ترصد قوى نافذة وقادرة على إلحاق الأذى بها. يستوي في ذلك نقد وكرتي وكارلوس، ويمتد الأمر إلى ابن لادن والظواهري وخالد شيخ محمد والزرقاوي، وبدرجة من الدرجات قادة حماس وحزب الله وآخرين من دونهم الله يعلمهم. الفارق الكبير أن الانصرافي انصرف منذ البداية إلى إخفاء ذاته والاستعاضة عنها بما تمنحه بركات التكنولوجيا من حضور وتأثير عبر الصوت، برغم غواية الصورة ودلالة المشاهدة في عصر الحداثة الفائقة.
لم يشأ الانصرافي أن يظهر صورة في عهود التدوين الصوتي وغلبة البودكاست، مستعينًا بجوهر الخطاب عن عرض الصورة وبريقها و"إن عُرفت مغزى الرسائل فلا مشاحة في مرائي الأشخاص".
السياق الذي أنتج الظاهرة
على كثافة المعالجات النظرية في علم الاجتماع الرقمي حول تأثيرات البنية الشبكية في تثوير الواقع وتشكيل الأحداث، ومع تصاعد الاهتمام بالمفاعيل الافتراضية في زمن الانتفاضات العربية بموجاتها المختلفة، وثوراتها المضادة، وحروبها الأهلية، والنجاح المنسوب إليها في دك عروش استطال بقاؤها حقبًا متطاولة في مشرق العرب ومغربهم، برز الانصرافي بوصفه حالة بالغة الخصوصية وشديدة الزخم. لكونه استطاع أن يوجد حيزًا من التأثير والحضور ضمن خطاب الحرب السودانية، وهو يرفد الساحة العمومية بقراءة يوميات الأحداث وتحليلها وتحريرها وتقرير الأحكام بشأنها، وضخ معلومات كثيفة حول الظلال السياسية والمواقف الإقليمية والدولية، وفوق هذا وذاك جلب التأييد الشعبي للجيش والتشنيع على الأطراف المدنية "المحايدة والرافضة" للحرب، والوقوف على النقيض من المكونات الاجتماعية الداعمة للدعم السريع.
تساعد حالة الانصرافي في اكتناه العلاقة الجدلية بين الميديا والميدان من ثورة ديسمبر وحتى حرب أبريل على ضوء جدلية علاقة الشبكي والواقعي، ومحاولة تحريرها وفهمها، وتتبع علاقاتها السببية. وتشير بنحو من الأنحاء إلى دراسة الفاعلين الشبكيين الثوريين. وضمن أي رؤى ومعارف وإيديولوجيات تشكلت قناعاتهم؟ وما هي رهاناتهم التي يسعون إلى تحقيقها؟ وكيف تتشابك أطر العلاقة بين الافتراضي -الميديا/الواقعي- الميدان على امتداد الفعل الثوري وفي مرحلة الحرب؟ وهل ثمة فارق بين جدلية الميديا والميدان على مستوى الثورة والحرب؟ وعلى ماذا نشأ الصراع القائم بين أطراف الجدلية الشبكية/الواقعية؟ وهل مناط الصراع شبكي؟ أم واقعي؟ أم جدلي؟ وحول ماذا نشأ الصراع؟ وما هي المحصلة الحتمية للصراع الدائر حاليًا والمنتقل من الثورة إلى الحرب؟ وكيف تعمل الجدلية على تحقيقه؟ إذ يمثل الانصرافي أقصى مدى لحالة التأثير المنشود عبر فعل الميديا بصورة ربما لم تدركها أنظار الباحثين على نحو شامل.
محلل سياسي: ظاهرة "اللايفاتي" لا يمكن أن تُفهم إلا في سياق تراجع المنظومات السياسية الكبرى باعتبارها منتجة للخطاب والمواقف والتعبير السياسي
عباس محمد صالح، المحلل السياسي والمختص في الاستراتيجيات الإعلامية، يرد حالة الانصرافي إلى ظاهرة أكبر غزت المجال العام في البلاد بعد الأحداث الكبرى التي تلت سقوط البشير في 2019م، وهي تتوسل التعبير عبر البث المباشر (Live) الذي توفره منصات التواصل الاجتماعي، وصنع ذات مؤثرة تقليدًا لما حققه البعض من شهرة عبر اتباع ذات النهج. يقول عباس إن ظاهرة "اللايفاتي" لا يمكن أن تُفهم إلا في سياق تراجع المنظومات السياسية الكبرى باعتبارها منتجة للخطاب والمواقف والتعبير السياسي، وصعود الناشط على وقع تراجع الأحزاب البرامجية، وهو لا ينطلق على الدوام من رؤى ونماذج مفاهيمية واضحة تستهدف التبشير بمشروعات وطنية أو أطروحات أيديولوجية، وإنما قد يكون محض ذات تبحث عن الأضواء والشهرة وتتنقل بين المواقف والكيانات وتتبنى الرأي ونقيضه.
شواهد التأثير ومظان الحضور
بلغت شهرة الانصرافي مدى واسعًا ضمن سوح الميديا ومنصات التأثير الشبكي، غير أن حضوره اللافت في الفضاء العمومي صار أمثولة تحكي قوة نفاذ المفاعيل الرقمية والذوات الافتراضية. إذ تناسل سيل الانصرافي باعتباره وسمًا دامغًا في كثير من الأشعار والمسادير وعلى أحدث الثياب النسائية وضمن الأهازيج الغنائية، وانطلقت مواكب في أماكن مختلفة تنشد أدواره وتقرظه حتى تُوجت بتكريم القوات المسلحة له واستضافته -وهو ذات مجهولة الماهية معلومة الأثر- في تلفزيون السودان القومي. في المقابل، خاض الانصرافي معركة محتدمة مع والي الجزيرة بسبب ما قال إنه تقاعس جرى من الوالي عن مقام ما لا يتم الواجب إلا به، واضطر الوالي أن يرد عليه بتصريحات مقذعة بلغت حد السباب.
يقول بروفيسور علام النور عثمان، المختص في إدارة التكنولوجيا والمعرفة والتنمية المستدامة، إن الانصرافي كاد أن يبلغ مستوى الظاهرة من فرط حضوره وقدرته على تشكيل القناعات، مشيرًا إلى أن حالة الانصرافي تمثل أفقًا جديدًا في رصد حدود تأثير "الذوات المؤثرة"، وهي بوصفها شخصية فارقة يمكن النظر إليها كظاهرة تحتاج إلى مزيد دراسة وتمحيص لجهة ما أسماه علام "دور ملحوظ في تغيير المفاهيم ومنح التصورات حول الحرب الراهنة وعلى مدار الانتقال المضطرب في أعقاب ثورة ديسمبر، ذاكرًا ومذكرًا بحجم الدعم الذي قدمه لمعسكر الجيش وحشده التأييد للقوات المسلحة، ومنافحته بقوة لإعلام الدعم السريع على ضخامة المال السياسي المبذول في ترجيح رؤيته وروايته"، بحسب تعبير علام.
ماهية الفاعل الخفي
يبدو أن الحيلة التي اتبعها في إخفاء هويته وضرب بموجبها سياجًا سميكًا من السرية حول ذاته مكنت الانصرافي من أن يقول ما يشاء كيفما شاء دون التورط في عواقب ما يصدره من أحكام وأوصاف. وأيًا كان السبب في تواريه عن الأنظار بغرض الحماية أو طلبًا للحرية، فقد استطاع الانصرافي أن يتماهى مع الشرط الافتراضي ليوظفه في إثراء رسالته إلى أقصى مدى. في مقابلة تلفزيونية مع الفضائية القومية، أكد الانصرافي أنه أوجد صفحته منذ العام 2015م بغرض إسداء النصح لأجهزة الدولة وتقويم مسيرتها، سيما الأجهزة الأمنية والعسكرية. ولأن الخوض في قضايا الأمن القومي ذاك الأوان من شأنه أن يعرض المرء لمخاطر جمة، آثر أن يخفي ذاته حماية لها من مجريات التتبع والتقصي. ذات الأمر وفّر له فرصة للتواصل مع عناصر تنشد الإصلاح وتحارب الفساد من داخل منظومات السلطة. أكد الانصرافي في ذات اللقاء مشاركته الفاعلة في ثورة ديسمبر عبر مواكبها ونواظمها ولجانها، واختلافه مع القوى المدنية الصاعدة في ديسمبر.
لقد حاولت بعض المنظومات الأمنية، ومنها استخبارات الدعم السريع، أن تجيب على سؤال ماهية الانصرافي. إذ أوردت معلومات -على لسان الرائد بالدعم السريع علي دخرو- قالت إنها حصلت عليها بعد جهد أمني حثيث، أرجعت بموجبها شخصية الانصرافي إلى أحد ضباط الدفعة (44) يدعى نور الدين أبو قرون، وقالت إنه موجود بالمنطقة العسكرية بأم درمان، محاطًا برعاية خاصة من أجهزة الاستخبارات المضادة والمخابرات والأمن. في المقابل، طافت شكوك كثيرة حول ناشط آخر يدعى محمد محمود السماني، عمل والده بالبرلمان السوداني. ورغم ذيوع هذه الرواية، إلا أن للصحفي الاستقصائي عبد الرحمن الأمين رأيًا آخرًا، حيث يرجح أن شخصية الانصرافي تعود إلى شاب يُدعى معتز صلاح حسن، ولد عام 1969م، ومكث حينًا من الوقت في ألمانيا تلقى خلالها تكوينه المعرفي الأساسي، وهو يقيم حاليًا -بحسب معلومات الأمين- في المنطقة العسكرية بكرري. وعلى اختلاف المسعى الاستكشافي لشخصية الانصرافي، تبقى حالة الإبهام، وإن لم تكن مقصودة أول الأمر، واحدة من أدوات التسويق والتشويق وجواذب الإثارة التي أضفت سابقًا وما زالت تضفي مقبولية عالية لدى قطاعات مؤثرة من الشعب السوداني. إذ بلغت مشاهداته في منصة اليوتيوب أكثر من آخر تعداد لمجموع الشعب، وتخطى عدد متابعيه في منصة تيك توك المئتي ألف، ورغم إغلاق صفحته مؤخرًا بموقع فيس بوك، إلا أنه لم يزل يبث عبر المنصة رسائله متبعًا طرائق ذكية تتماهى مع قدرته على التخفي والتكيف الافتراضي.
والأذن تعشق قبل العين أحيانًا
تُقرأ حالة الانصرافي كمنزع شعبوي مضاد للنخب والمؤسسات. يبدو جنوحه إلى التعبير بلغة عامية مبينة تستوعب جموع الناس على تفاوت معارفهم وجموح آرائهم ومعتقداتهم، مع انخراطه في المزاج الشبابي بأساليبه الخاصة ومفرداته المائزة. استطاع لكل ذلك ولغيره أن يجد حيزًا في توجيه الرأي العام على حدة الانقسام الحادث بسبب الحرب. يرى متابعون أن الانصرافي وظّف رمزية الفنان الراحل محمود عبد العزيز وطرح نفسه كواحد من جماعته المشهورين بـ(الحواتة)، ومن ذلك ابتداره "لايفاته" بإحدى تسجيلات محمود وحديثه الدائم عن صلته به. الإنصاف يقتضي أن نقول ما يصدر عن الانصرافي يخرج عن مشكاة عاطفة مشبوبة لمحمود عبد العزيز ومسيرته الفنية والإنسانية، وكما يتضح من خلال تواصله مع أسرة محمود عبد العزيز واستضافته لأمه وشقيقه مأمون عبر لايفاته أكثر من مرة. لا شك أن درجة الاستمالة التي يجدها خطابه واجتذابه لفئام مختلفة من المجتمع السوداني أمر نابع من أسلوبه وطريقة عرضه وحجاجه.
صوغ خطاب شعبوي لصالح الجيش
يعتقد عباس محمد صالح أن الفراغ السياسي الذي حدث في البلاد بعد التغيير في 2019م، وقابلية العقل الشفاهي السوداني لتصديق الشائعات وتداولها، أنتج ظاهرة اللايفاتية باعتبارهم أداة مهمة، إذ وظفتها القوى الخارجية الداعمة لتمرد الدعم السريع في توجيه الرأي العام والتلاعب به. في هذا السياق نهض الانصرافي بدور المنافح عن القوات المسلحة وتبني سردياتها حول الحرب، ومفندًا ومبددًا للرهان السلطوي والتفكيكي الذي تلاقت فيه قوى مدنية مع الدعم السريع "نتيجة قصر نظر فاضح لديهم"، بحسب وصف عباس.
مع تصاعد صيته وتزايد شعبيته، غدا الانصرافي فاعلًا مزعجًا لنظرائه من الفريق المعادي للجيش
ومع تصاعد صيته وتزايد شعبيته، غدا الانصرافي فاعلًا مزعجًا لنظرائه من الفريق المعادي للجيش. حيث استطاع أن يصنع خطابًا مؤثرًا لم تنتجه القوات المسلحة نفسها، مما جعله يفرض نفسه على المؤسسة وظهيرها الوطني العريض كصوت ردع يخشاه الأعداء، وحقق ما عجزت عنه من خلال تسخير الوسائط وملء الفراغ الضار والخطير الذي يتصف به الإعلام العسكري ومهمة المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة. يعتقد عباس أن خطورة الانصرافي في قدرته على منافسة الكتلة السياسية عبر تحقيق شعبية كاسحة بلغت آلاف إن لم يكن ملايين المتابعين، وتأثيره على احتكار الكتلة المدنية صناعة اللايفاتية لخدمة خطها السياسي. أكثر من ذلك، تعريته المكونات المدنية ورموزها وتكريس كونها مجرد جناح سياسي للتمرد وبوقًا لخدمة الخارج وأجندته.
العزلة الواقعية والتواصل الشعوري
لا يمكن أن يُقرأ دور الانصرافي على مستوى الميديا والميادين بمعزل عن الدوافع الإدراكية التي تصنع تصوراته ورؤاه وتسهم في تبني مواقف حادة من قوات الدعم السريع والقوى المدنية التي يتهمها بالوقوف إلى جانبها وارتهانهما معًا للخارج. من خلال إعلائه المعايير الوطنية وإيلائه أهمية خاصة لدعم الجيش، يمكن أن نفهم ولع الانصرافي بفكرة الوطن المتخيل الذي يعيشه في خياله ويجتاز السفر إليه حلمًا لا واقعًا. سنفهم كذلك استعاضته عن العزلة الواقعية بالتواصل الشعوري والحميمية الدافقة في خطابه، وكيف تتمسرح المشاعر على اختلافها حزنًا وفرحًا وانزعاجًا واستعلاءً وكراهية واحتفاءً في صوته الأثير. سنجد كيف احتفى بعودة الإذاعة وكيف انزعج لسقوط نيالا أو الجزيرة وكيف حزن لمقتل اللواء أيوب بالمدرعات، وكيف يناصب رموز "تقدم" عداءً صفريًا أكثر من عناصر الدعم السريع، وكيف يتجاوز في نقده أحيانًا لقوى الكفاح المسلح وكيف ينتقد قيادة الجيش في أوقات ويثمن مجهودات الجنود على مدار الوقت.
كل ذلك وغيره يجعلنا نرجح أن شاغل الانصرافي اعتباري بامتياز، وأنه يدور مع معاني التقدير الذاتي على خفائها وجودًا وعدمًا. واضح أنه لا يعبأ كثيرًا بدوافع الشهرة والمصلحة والنفوذ، كونه ألغى التعريف بذاته وآثر إنكارها، وهو قادر أن يتحول بين عشية وضحاها إلى أيقونة مرئية تمشي بين الناس وتجني نتائج تأثيرها في الواقع.