ما سألته عن إحساسه، و"دار عزة" تُصدر الكتاب رقم "579"،وهو أعلى عدد إصدارات كتب من دار نشرٍ سودانية واحدة. بدأتْ بـ "ليل المغنين" لعمر الدوش، وتنتهي بـ "السودان وفشل المشروع الإسلامي". أجاب نور الهدى مباشرةً، بأنّه: فخور جدًا بما حقّقه، "قالها بالانجليزية".
أكثر الاتهاماتْ التي نلاحق دار عزّة، أنّها تنشرُ فقط للكُتّاب اليساريين، و تأسستْ من مال الحزب الشيوعي، لكن نور الهدييُ يقسم على بطلان الاتهام
ويستدرك بأنّ هذا الفخر ليس له لوحده، وإنّما يُشاركه فيه جميع أفراد الشعب السوداني، فهو لا يعتبر الدار ملكًا له، وإنّما هي رد لجمائل الشعب السوداني. وحكى بأنّ أي كتاب يصدر عن دار عزة يأخذ النسخة الأولى منه من المطبعة مباشرةً، ويضعها في إرشيفهِ الخاص، بعد أنْ يُنادي على أبنائه الثلاثة مبشرًا أنهم زادوا واحدًا. فالكتاب بالنسبة لـنور الهدى، مثله مثل الطفل الوليد، فهو يُتابع، ويُعاني كل مراحله، من الوحم وآلام المخاض، وصولًا الى الولادة.
اقرأ/ي أيضًا: فضيلي جمّاع.. المشي على حبل الكتابةِ المشدود
عند سؤاله عن بداية علاقته بالكتاب، رجع نور الهدى محمد، صاحب دار عزة للنشر، بظهره إلى مسند كرسي الجلوس، ذو المساند المترهّلة، والمطبّقة، من كثرة الجلوس والاستناد عليها. واضعًا يده على شعره الأشيب، ثم مررها على ذقنه الحليقة، ثم أجابني: بأنّ علاقته بالكتاب ترجعُ إلى أيام الدراسة الأولى، عبر مكتبةٍ خشبيةٍ، موضوعة في مكتبة المدرسة.
قرأ وقتها كتبًا مثل: "بلال مؤذن الرسول"، "بقرة اليتامى" وغيرها من كتب الأطفال. لكنه يتذكّر أنّ أول كتاب اشتراه، كان من مكتبة الفجر لصاحبها محمد سيد أحمد، بشلوخه المميزة، بمدينة ود مدني، كان ذلك في العام 1967. أما الكتاب فهو "الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني". اشتراه بالتقسيط بمبلغ "12" جنيهًا، دفع القسط الأول "3" جنيهات، من أول راتب تسلّمه من عمله؛ موظفًا بحسابات المديرية مدني.
واستمرتْ معه "لعنة الكتاب"- كما وصفها د. عبد الله علي إبراهيم- حتى في أحلك سني حياته عقب اعتقاله غقب انقلاب 1971 الشيوعي الفاشل. مرورًا بعمله بالجامعة الإسلامية، وجامعة الخرطوم، التي قال أنّه مستعدٌ للعمل فيها مجانًا، تقديرًا منه ووفاء لأياديها البيضاء عليه، وانتهاءً بدارعزة للنشر والتوزيع.
"لعنة الكتاب" التي أصابته منذ وقتٍ مبكرٍ في حياته، يراها نور الهدى هواية، ومحبة وعشقٍ. تحوّل بمرور الوقت إلى احترافٍ، ومهنةٍ يعتاش منها، ويُعيلُ منها العيال. وبالرغم من كونها مهنة متعبة، ومنهكة، وتأخذ جل وقته، بل وتراها زوجته بمثابة "الضُرّة" بالنسبة لها. إلا أنّ نور الهدى يراها غير ذلك، فهي بالنسبة إليه: مهنة جميلة، وسّعتْ من محيط معرفته بالناس، وعرّفته بخُلاصة المجتمع، من العلماء، والأدباء، والمبدعين، والسياسيين والمفكّرين وغيرهم.
ويضحك نور الهدى، مواصلًا: وبجانب هؤلاء أيضًا جمعته بالذين يستوقفونه بالشارع، منتصف النهارات الحارقة، ليُسمعوه قصيدةً. ويسألوه من بعد: هل تصلح هي وأخريات للنشر أم لا؟ أو في حالة المجنون الذي جاءه يومًا بمكتبه، وبيده اليمنى هاتف جوال به "51" ديوان شعر، يُريد نشرهم جميعًا. نور الهدى يقول بأنّه يحتمل أمثال هؤلاء، بذات القدر الذي يتشرّف فيه بخدمة مَنْ سمّاهم بـ "خُلاصة المجتمع".
نور الهدى يُطلق على سجن كوبر "جامعة كوبر للعلوم السياسية"، في إشارةٍ منه إلى رموز العمل السياسي السوداني، وأساتذة الجامعات الذين التقى بهم هناك. بل وتتلمذ على أيدي كثيرين منهم كما يقول ويُشير بفخر: "الناس ديل علّمونا معنى الرجالة في السجن".
وبالرغم من أنّ أول مرةٍ يدخل فيها السجن لم يتجاوز العشرين إلا بعامٍ واحدٍ، لكنه التقى برموز في العمل السياسي، مثل عبد الكريم ميرغني، وصلاح مازري، وعبد الله علي إبراهيم، ومحجوب شريف، وغيرهم. إلا أنّ الكتاب ظلّ هو الرفيق بالنسبة لنور الهدى، ففي الوقت الذي كان فيه المساجين السياسيون بسجن كوبر، مشغولين بتهريبِ السجائر، والتمباك، والبسكويت، وورق الكوتشينة، كان نور الهدى مشغولًا بتهريب الكتب. وعبر الكتاب توثقتْ علاقاته بالكثير من الأصدقاء، منذ تلك السنوات، وحتى الآن.
اقرأ/ي أيضًا: ماركيز في ضيافة كاواباتا
مكتبه بشارع الجامعة، يعجُ يوميًا بالكُتّاب، يمينهم، ويسارهم، ولا منتميهم. يخدمهم نور الهدى حافيًا، يُعدُ بنفسه القهوة، والشاي، ويعجنُ لهم الكسرة بالماء والطماطم. سألته عن أول كتابٍ صدر عن دار عزة، فأجاب بأنّ عزة كلها صنعها الكُتّاب السودانيون، صنعوها بإبداعهم، وفكرهم. وقبل ذلك صنعوها بإيمانهم بفكرة الكتاب. ويُقسمُ نور الهدى بأنّ أكثر من 90% من الكُتّاب والمؤلفين الذين نشر لهم، لم يتقاضوا أجرًا نظير الطباعة. ويحكي عن قصة أول كتاب صدر عن دار عزّة، وهو ديوان "ليل المغنين"، للشاعر الراحل عمر الطيب الدوش. كان شرط الدوش الأول والأخير أنْ يُطبع الديوان كما هو، بلا حذفٍ، أو إضافةٍ، أو أيةٍ تدخلاتٍ أخرى. وقد كان.
وهنا يُصر نور الهدى أنْ يُضيف بأنّ ذات الأمر حدث مع الكتاب الثاني الذي أصدرته دار عزة، وهو "السنبلاية"، للشاعر محجوب شريف. حيث رفض الأخير تقاضي أي مليمٍ نظير ديوانه. ويواصل نور الهدى "بالرغم من حاجة محجوب شريف لمقابل مادي لما يُنتجه من إبداع، إلا أنّه يرفض تقاضي أي أجر نظير قصيدةٍ نُشرتْ له، أو تغنى بها أحد الفنانين".
أكثر الاتهاماتْ التي ظلّتْ ملاحقةً لنور الهدى، ودار عزّة، أنّها تنشرُ للكُتّاب والمؤلفين اليساريين، وأنّها تأسستْ من مال الحزب الشيوعي، لكنه يُقسمُ أنه لا الحزب الشيوعي، ولا غيره دفع قرشًا واحدًا. وأنّ دار عزّة نشرت لجميع الطيف الفكري والثقافي والسياسي السوداني. فتضم إصدارت عزّة مؤلفات لمحمد إبراهيم نُقُد الشيوعي، ولحسن مكّي الإسلامي.
كان يهرب الى الكتاب، قارئًا له، عندما يتجه رفقائه الى جلسات الأنس، والقعدات. لدرجة عدم قدرته على النوم ليلًا، إنْ لم يقرأ كتابًا، أو بعض كتاب
الكتاب بالنسبة لنور الهدى أيضًا إلفة، وصداقة، وعلاقة إنسانية مستمرةٍ منذ الطفولة الأولى، وحتى لحظة حديثه، ظهر الأسبوع الفائت. فقد كان يهرب الى الكتاب، قارئًا، عندما يتجه رفقائه إلى جلسات الأنس، والقعدات. حتى صار لا يقدر على النوم ليلًا، إنْ لم يقرأ كتابًا، أو بعض كتاب.
فرح نور الهدى بالنجاح الذي حققته دار عزة، وبقبول الناس لها، يراه نجاحًا للجميع، ونجاحًا للكتاب، الذي رفع ابن عامل اليومية البسيط، الى ناشر سوداني يُشار إليه بالبنان.
اقرأ/ي أيضًا: