هل كانت مصادفةً أن ينشر الفنان التشكيلي "فتح الرحمن خير الله"، الشهير بفتحي باردوس، بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر الماضي، صورةً شخصية له "سيلفي"، ويكتب عليها "آخر صورة؟" هل كانت محض مصادفة؟
بعد معاناةٍ طويلة مع المرض، أسلم التشكيلي فتح الرحمن باردوس الروح أمس السبت 9 شباط/فبراير، وانطفأتْ عينيه الممتلئتين بالضوء والحياة
وهل مصادفة أيضًا أن ينشر فتحي باردوس في آخر بوستٍ له على فيسبوك، بتاريخ 9 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، آخر أعماله، مع تعليق يقول: "هذه الرسومات لم يتم نشر معظمها من قبل. وبالطبع لم تعرض لأسباب خارجة عن إرادتي. ممارسة الرسم والكتابة في هذه المرحلة من الاستشفاء ليست بالمهمة السهلة ولكنها ليست مستحيلة وهذا ما يجعلني أثابر على المحاولة"؟ هل كان كل ذلك مجرد مصادفة أيضًا؟
اقرأ/ي أيضًا: الأيقونات الثوريّة.. جدليّة الرمز وصاحبه
بعد معاناةٍ طويلة مع المرض، أسلم التشكيلي فتح الرحمن باردوس الروح أمس السبت 9 شباط/فبراير، وانطفأتْ عيناه الممتلئتان بالضوء والحياة، ومحبة الآخرين. وتوقفت أخيرًا أصابعه عن إبداع البورتريهات التي كان يتميّز بها دونًا عن غيره من منتجي البورتريه من التشكيليين السودانيين. ملامح عالية التصوير والدقة، وخطوط تجري على الورق، فما ينقصها إلا التواصل المادي مع الآخرين.
ترى أعماله، التي يُركّز فيها على الأبيض والأسود، فترى البراءة منطوقةً ومتدفقة. وهي ذات البراءة التي وسمت روحه وعلاقته بالآخرين الذين صحبوه في حياته الطويلة المنتِجة، أو الذين التقوا به عابرين.
أسلم "باردوس" الروح بعد قتالٍ طويل مع جلطةٍ أصابته في سنتيه الأخيرتين، ألزمته السرير الأبيض بمشافي السودان ومصر.
واحدة من المحطات المهمة في حياة الفنان فتح الرحمن باردوس، بجانب عمله باكرًا في التعليم، هو انغماسه وعددٍ من أصدقائه، محمد عثمان عبد النبي، سيد أحمد بلال، بشّار الكُتبي، في مجموعة "الجيفاريين". وهي تجربة ظلّ تأثيرها واضحًا فيما بقي من حياته، رغم خروجه منها.
الأستاذ الأمين محمد عثمان، المدرس السابق بكلية الفنون الجميلة، والزميل والصديق لفتح الرحمن باردوس، يعتبر باردوس، أحد أميز التشكيليين السودانيين، في علاقاتهم بالناس، وفي مشروعاته الفنية، بحسب عثمان فقد تخرج باردوس في قسم الرسم والتلوين بكلية الفنون، في العام ١٩٧٦، وهو السابق لتخرجه هو. يضيف عثمان الذي تحدث لـ"الترا سودان، بأن باردوس التحق فور تخرجه للعمل بمصلحة الثقافة السودانية، التي ابتعثته فيما بعد لجمهورية مصر العربية للدراسات العليا في الفنون، عاد بعدها لمصلحة الثقافة، التي أسهم فيها مع آخرين كُثر في قسم يُعنى بثقافة الطفل.
وهي ذات الفترة التي يستدعي فيها "محمد سوركتي" علاقته بالراحل، حيث جاء لمصلحة الثقافة موظفًا صغيرًا في بداية مدارج الخدمة المدنية.
يقول سوركتي: "في خريف 1986 تم تعييني بمصلحة الثقافة في إدارة ثقافة الطفل، كنت ولا زلت محبًا جدًا للرسم وكانت تبهجني لوحات الأطفال المرسومة بألوان الخشب وألوان الماء.. في أول يوم عمل وجدت الراحل فتح الرحمن خيرالله باردوس جالسا في مكتب ثقافة الطفل يعالج أطر لوحات الأطفال المشاركة في مسابقة بالهند كنت مفتونًا بطريقته في قص الورق وتثبيت اللوحات، وبين لحظة وأخرى اتفرس في لوحات الأطفال الجميلة بتركيزٍ شديد".
اقرأ/ي أيضًا: بعد 40 عامًا على رحيل "منى الخير".. "عيون المها" ما تزال تغازل وجدان الناس
ثم يتذكّر سوركتي حوارًا قصيرًا دار بينهما، انتهى بأن عرض عليه فتحي باردوس الاشتراك في معرضٍ تشكيلي، وهو المحب فقط للرسم دون أن يكون محترفًا. بل وأبعد من ذلك احتفظ الراحل باردوس بواحدة من لوحات سوركتي. يخلص سوركتي في حديثه عن الراحل باردوس بأنه "كان طفلًا بالغ الجمال".
وبكثير من الأسى والتأثّر، يعود الأمين، ليُكمل سرد عدد من المحطات المهمة في حياة التشكيلي باردوس، بداية من اعتقالاته المتكررة والتضييق عليه، عقب انقلاب الإنقاذ في حزيران/يونيو ١٩٨٩، مما اضطره، مع الكثير من الفنانين والمثقفين الذين تمّ التضييق عليهم، إلى الهجرة للعمل مخرجًا صحفيًا بعددٍ من الصُحف بالسعودية.
هذه الفترة، والحديث للأمين محمد عثمان، هي التي أنتج فيها فتحي باردوس عدة كتابات عن المشردين، وتطوّرت فيما بعد ليضمها كتابه "يوميات التشرد".
يُضيف الأمين: "المدهش أنّ باردوس، يرسم البراءة في الأطفال المشردين، فيخرجوا مكتملي البهاء، وبلا علامات أو أخاديد في وجوههم، رغم حياتهم البائسة. باردوس كان يرى البراءة فيهم فقط، وينقلها عبر الأبيض والأسود إلى الناس".
صديقه باردوس مصطفى بحيري ينعيه قائلًا: "شكرًا لانحنائك دأبًا، تخط وتخطط الماكييت، ترُج وتنفض أقلامك فيسيل مدادها.. شكرًا لك ترسم وترسم حتى رسمتك ريشة الإله على خط الافق نجمة.. شكرًا لابتسامتك الحيية.. شكرًا لتلويحتك وادعًا و مودعًا".
يرسم التشكيلي "حاتم بابكر" خطوطًا إضافية في تجربة التشكيلي باردوس، فيشير إلى كونه أحد الفنانين المهمين في النقد التشكيلي، ضمن مجموعة ضمّنهم التشكيلي صلاح حسن في كتابه "حوارات السبعينات في الأدب التشكيلي"، صُحبة كل من، عبد الله بولا، حسن موسى، علاء الدين الجزولي وغيرهم. وهو الجيل -بحسب حاتم- الذي أعاد طرح سؤال موقع الفنان التشكيلي في المجتمع، وكذا انفعالات الهوية. منبهًا إلى أنّ من يُتابع الوجوه التي تظهر في بورتريهات باردوس، يلمح انحيازه لفئات المهمشين والمسحوقين والمشردين.
عمل فتحي باردوس باكرًا مخرجًا صحفيًا في عددٍ من الصحف السودانية، والتقى بعددٍ من زملائه وأصدقائه الفنانين، ومنهم مصطفى بحيري الذي ينعيه بالقول: "شكرًا لانحنائك دأبًا، تخط وتخطط الماكييت، ترُج وتنفض أقلامك فيسيل مدادها.. شكرًا لك ترسم وترسم حتى رسمتك ريشة الإله على خط الافق نجمة.. شكرًا لابتسامتك الحيية.. شكرًا لتلويحتك وادعًا ومودعًا".
اقرأ/ي أيضًا:
زار 52 دولة على ظهور الجمال.. الرحالة "القاسمي" يحكي قصته من السودان