05-أكتوبر-2018

قامت أبوظبي بمحاولة ابتزاز السودان في أزمته دون تقديم مساعدة نافعة (دي اغوستيني/Getty)

قبيل سنوات سئُل الرئيس السوداني عمر البشير في برنامج تلفزيوني عن الكتاب الذي احتفظ به لفترة طويلة، فأشار دون تردد إلى اعترافات القرصان الاقتصادي جون بيركنز في كتابه ذائع الصيت "الاغتيال الاقتصادي للأمم". استفاض  البشير حينها شارحًا حجم المؤامرة والألاعيب الاقتصادية التي تُحاك ضد دول العالم الثالث كما حواها ذلك الكتاب، وتجسدت فعليًاً في بذل القروض التي يصعب سدادها، وخصخصة كل شيء، وترك الدول نهبًا للعائلات الثرية التي تسيطر على موارد العالم.

تعرض السودان لمحاولات ابتزاز سياسي من طرف أبوظبي التي عزفت عن تقديم المساعدة أمام الأزمة الاقتصادية بعد رفض شروطها

المثير في الأمر أن السودان بعد مرور نحو ثلاثة عقود من سيطرة البشير على الحكم انتهى به الحال إلى وضع أشبه بذلك، تعثر في سداد الدين، وانتهج سياسة الخصخصة بشراهة، وعجز عن السيطرة على الانهيار الاقتصادي، إلى درجة اللجوء إلى وصفات البنك الدولي.

 

تعويم الجنيه ولو بعد حين

بالأمس راجت أخبار صحفية عن اعتزام الحكومة السودانية تحرير سعر الصرف، أي تعويم الجنيه، وإنشاء سوق للنقد الأجنبي، واجتراح سياسة اقتصادية جديدة وإلغاء القائمة السلبية للسلع المستوردة، أي فك حظرها. كل ذلك بهدف التعافي قليلاً وجذب تحويلات المغتربين التي تبلغ نحو 4 مليار دولار، والقضاء على السوق السوداء. وقد أثارت تلك القرارات مخاوف عديدة بارتفاع أسعار العملات الأجنبية، وبالمقابل التسبب في موجة غلاء جديدة، وارتفاع أسعار الدواء والقمح والوقود وقطع غيار السيارات، وغيرها الكثير من السلع المستوردة.

اقرأ/ي أيضًا: ملف حقوق الإنسان في السودان.. صفعة جنيف الباردة

عبر عدد من التغريدات كشف رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية والاقتصاد الوطني معتز موسى بعض ملامح السياسة الاقتصادية الجديدة، وقال موسى "سنصدر قريبًا سياسات شاملة للاقتصاد الكلي تهدف لوضع اقتصادنا في طريق النمو المستدام في ظل استقرار اقتصادي". مؤكدًا انه ليس لديهم أي اتجاه لزيادة الدولار الجمركي أو رفع الدعم عن السلع الأساسية، وحاول موسى التمهيد للقرارات بقوله "أجزنا حزمة السياسات الاقتصادية التي تهدف لانطلاق الاقتصاد السوداني وتحقيق أكبر عائد من العملات الحرة من الصادرات غير البترولية، مستبشرين بحصاد زراعة أكثر من 50 مليون فدان هذا الموسم".

موت الشعارات القديمة

بالرغم من رفع حكومة الإنقاذ الوطني بقيادة البشير منذ وصولها للسلطة شعارات على شاكلة "نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع". إلا أن تلك الشعارات لم تتحقق على أرض الواقع ولو نسبيًا، وظل السودان يستورد السلع الأساسية بما فيها القمح والدواء، وتدهورت نتيجة للحصار الأمريكي أهم المشروعات المنتجة، من بينها مشروع الجزيرة الزراعي، والخطوط الجوية السودانية "سودانير" التي لم تعد تمتلك أسطول طائرات كما هو الحال في الماضي، وبلغت ديون السودان الخارجية 54 مليار دولار منها 85% متأخر التسديد.

فيما تضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة 15%، ونادي باريس 37% بجانب 36% لأطراف أخرى، إضافة إلى 14% للقطاع الخاص. في حين تحوز الصين على نسبة مقدرة في تلك الديوان، وبالمقابل يعاني السودان من ارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الجنيه السوداني منذ انفصال جنوب السودان في العام 2011 وفقدان ثلاثة أرباع موارده النفطية التي تقدر بـ 80% من موارد النقد الأجنبي.

 الحل في الذهب!

مواصلة لتحركاتها من أجل احتواء الانهيار الاقتصادي أعلنت الحكومة السودانية أمس رفع يدها عن تحديد سعر الصرف، وقالت إن آلية مستقلة من الخبراء ومديري المصارف ستقوم بتحديد سعر الصرف اليومي، متحدثًة عن سياسات مالية جديدة سيعلن عنها قريبًا لإعادة التوازن الداخلي والخارجي للاقتصاد. بينما أعلن محافظ بنك السودان المركزي محمد خير الزبير إلغاء الحظر على القائمة السلبية المكونة من 17 سلعة، نافيًا ما تردد أخيرًا عن تحرير سعر الصرف، وأشار إلى أنه سيتم تحديد أولويات الاستيراد للسلع ممثلة في الوقود واحتياجات مصفاة النفط والكهرباء، إضافة للقمح والسكر ومدخلات الإنتاج الزراعي والصناعي. وعقب جلسة طارئة لمجلس الوزراء أجاز خلالها حزمة من الإجراءات المتعلقة بالصادر والوارد، شرع  البنك المركزي في مسألة شراء الكميات المطروحة كافة من الذهب بحسب الأسعار العالمية وبيعه للحكومة أو أي مصدر آخر بذات السعر، على أمل أن  لا تقود الخطوة إلى تسريب أو إحداث تضخم في الاقتصاد، وتحِد في الوقت نفسه من تهريب الذهب للخارج، إذ أن أزمة تهريب الذهب إلى خارج البلاد تؤرق الحكومة.

سيناريو الفناء الطبيعي

ينظر رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير للأزمة الاقتصادية في السودان بكل تبعاتها من مدخل سياسي، واعتبر الدقير في حديثه لـ"ألترا صوت" أن الأزمة السياسية في السودان هي مصدر الأزمة الاقتصادية المستفحلة، قائلاً "لا يمكن تصور معالجة الأزمة الاقتصادية دون إعادة هيكلة البنيان الاقتصادي ليتحول من ريعي إلى إنتاجي تنموي لمصلحة كل السودانيين". وأوضح الدقير أن الدولة تدار بشعارات فارغة ولا يوجد مشروع وطني، بدليل أن الحكومة بعد ثلاثين عامًا تقول بأنها "سوف تفعل وسوف تفعل، كأنها انقلبت للتو أو هي حكومة منتخبة حديثًا" واصفًا ذلك بأنه نوع من الفقر السياسي والتحايل للبقاء في السلطة فقط لا أكثر.

اقرأ/ي أيضًا: حروب الأرض في السودان.. مناجم الذهب عنصر جديد في خريطة الصراعات الممتدة

وحول السيناريوهات المقبلة قال الدقير أن الأمل دائمًا موجود، ولكن المضي في طريق التمكين السياسي والاقتصادي يعني إغلاق باب الأمل نهائيًا. كما تنبأ بأن تكون الفترة المقبلة حبلى بالسيناريوهات المختلفة، من بينها سيناريو الفناء الطبيعي للنظام الحالي في السودان، لا سيما وأن إرادة التغيير موجودة.

مجرد شعارات

أقر رئيس حزب المؤتمر السوداني بأن الإجراءات القاسية التي اتبعتها الحكومة فيها الاعتراف بالعجز عن إدارة الدول وعودة للخضوع للمنظمات الدولية التي كانت تعاديها، لافتاً إلى أن معالجة هذا الواقع "تتطلب رؤية تخطيط منهجي وإحساسًا بمعاناة الشعب وحرصًا على مصالحه، فضلاً عن وجود قيادات تنفيذية، في كل المستويات، ذات معرفة وتأهيل وخبرة" موجهًا نقدًا عنيفًا للشعارات التي جاءت بها الإنقاذ، وقال إنها مجرد شعارات، ولم تظهر أي سمات لاقتصاد إسلامي، بل استأثرت فئة قليلة بالثروة وجرت الفقر للسودانيين، وإنما كان القصد منها إضفاء قداسة على سلطتهم. واستدل بالنقد الذي وجهه الرئيس البشير قبل فترة للصيرفة الإسلامية، والاعتراف بفشلها.

عرض الإمارات الانقلابي

الرئيس البشير كان قد كشف عن رفضه عرضًا ملياريًا من دول خليجية، لدعم الاقتصاد السوداني مقابل الخضوع لشروط تلك الدول، دون أن يعلن عن اسمها، لكن الراجح للبعض أنها السعودية والإمارات. وقدم المؤتمر الوطني معلومات عن ذلك العرض الذي يشابه ما قدم لرئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي بعد انقلابه على السلطة المنتخبة في مصر، وقال نائب الرئيس الحالي عثمان كبر "إن دولة شقيقة قدمت عرضًا ماليًا للحكومة السودانية أشبه بحزمة المساعدات التي قدمت لدولة مجاورة، لكن البشير رفض العرض باعتبار أن فيه مساس بثوابت وقيم الحزب الحاكم".

يتوقع أن يتصاعد التضخم في السوق السوداني ويتراجع سعر صرف العملة الوطنية وتكبد مزيد من الأثمان الاقتصادية نتيجة السير ضمن حزم صندوق النقد الدولي

من جانبه قدم الرئيس اعتذارًا ضمنيًا للسودانيين لصبرهم على الضغوطات الاقتصادية، ولما أبداه الشعب من مواقف وطنية صادقة "قطعت الطريق على كل من راهن على حدوث توترات اجتماعية جراء ذلك"، حسب ادعائه، معتبرًا أن "التحديات الحالية أفرزها حصار اقتصادي جائر وتضييق بل إغلاق مخطط على منافذ الموارد الخارجية، جراء تمسك بلادنا بمبادئها، وصيانتها لاستقلالها، وعدم  ارتهان مواقفها المبدئية لإغراءات الدعم والمساندة في حالة تخليها عنها"، على حد قوله.

في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2017 هبطت طائرة في مطار الخرطوم على متنها وفد من صندوق النقد الدولي، وبذل الصندوق خارطة طريق للانتعاش الاقتصادي، تجاهلتها الحكومة في الأول، إلا أنها عادت اليوم تقريبًا للعمل بها، ومن مؤشرات تلك الخطة، تحرير أسعار الصرف بالكامل، ورفع الدعم عن السلع، وخصخصة مؤسسات الدولة، وسط مخاوف بعض التيارات داخل النظام الحاكم بتكريس النزعة الاستعمارية وهيمنة الغرب على القرار السياسي، من خلال وصفات صندوق النقد الدولي، التي يبدو أن الحكومة أقدمت عليها مضطرة بالفعل.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الحركة الطلابية في السودان.. هروب من السياسة إلى العمل الأهلي

التعليم.. "المهمش الأكبر" في ميزانية السودان