أثار اتهام الجيش السوداني لإثيوبيا بقتل سبعة جنودٍ سودانيين ومدني كانوا أسرى لديها والتمثيل بجثثهم، ردود فعل واسعة في مواقع التواصل الاجتماعيّ بين مُعَزٍّ ومكذّبٍ للخبر.
سارعت أديس أبابا إلى نفي اتهامات الخرطوم، وزعمت –في بيانٍ لخارجيتها– أنّ وحدةً من الجيش السوداني توغّلت داخل الأراضي الإثيوبية مدعومةً من "جبهة تحرير التيغراي"، وعبرت الحدود الإثيوبية "بطريقة استفزازية"، ما أدى إلى الحادثة "المأساوية" – على حد وصف الخارجية الإثيوبية.
من بين السودانيين من كذّب بيان حكومته وصدّق النفي الإثيوبي بل شكّك بعضهم في الرواية الحكومية حتى من قبل صدور بيانٍ إثيوبي!
ومن بين السودانيين من كذّب بيان حكومته وصدّق النفي الإثيوبي، بل شكّك بعضهم في الرواية الحكومية حتى من قبل أن تُصدر الخارجية الإثيوبية بيانها!
في أيّ مكانٍ في العالم، وفي ظروفٍ مختلفة، كان المواطنون سيصدّقون حكومة بلادهم، لكن النفي الإثيوبي كان مقبولًا لدى قطاعٍ من السودانيين. من السهل طبعًا إطلاق الإحكام المجانية على مكذّبي الحكومة السودانية ووصفهم بالخيانة والعمالة، لكن الإنصاف يقتضي أن ننظر –نظرةً فاحصةً– إلى تاريخ حكوماتنا المليء بالأكاذيب وبتحريف الحقائق بل واختلاق الروايات من العدم. فقد ظلت هذه السلطة تكذب طوال الوقت حول قتل المتظاهرين وتنسبه إلى "طرف ثالث" مجهول، رغم عشرات المقاطع المصوّرة التي تُثبت تورّطها في قتل المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي تارةً وتارةً بسلاح الخرطوش المحرّم دوليًا. وإن كانت السلطة تكذب –وتتحرّى الكذب– لتُداري قتل مواطنيها؛ فما الذي يمنعها من الكذب فيما دون ذلك؟
ويعود توتّر العلاقة بين الشعب السوداني وجيشه إلى مجزرة فض اعتصام القيادة العامة للجيش بالخرطوم في الثالث من حزيران/ يونيو 2019، عقب الإطاحة بنظام الإنقاذ في 11 نيسان/ أبريل من نفس العام، بثورة شعبية شارك فيها الملايين من أبناء الشعب السوداني وبناته في المدن والقرى والفرقان.
بينما يُرجع بعض السودانيين هذا التوتّر إلى تواريخ أبعد؛ حيث كان الجيش السوداني رأس الرمح في الحروب الأهلية التي اشتعلت في السودان منذ استقلاله في العام 1956. ومع أنّ السودان شهد فتراتٍ من الهدوء، لكن الاقتتال لم يتوقّف حتى بعد توقيع الخرطوم على اتفاقية "نيفاشا" للسلام مع الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون قرنق دي مابيور. واستمرت الحروب والصراعات حتى بعد انفصال/ استقلال الجنوب في تموز/ يوليو من العام 2011، في أعقاب الاستفتاء الذي أيّد ما يتجاوز الـ(98%) من الجنوبيين المشاركين فيه خيار الانفصال عن الشمال؛ ليبرز "جنوبٌ جديدٌ" بكلّ إرث الجنوب القديم، بما في ذلك الحرب.
فيما اندلع النزاع المسلح في دارفور، غربي البلاد، منذ شباط/ فبراير 2003، حين بدأت مجموعتان مسلحتان، هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة بقتال الحكومة السودانية التي اتُّهمت باضطهاد سكان دارفور من غير العرب. وردّت الحكومة بهجماتٍ وُصفت بأنها حملة "تطهير عرقي" ضد سكان دارفور من غير العرب. وأدت الحملة إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين، واتهم بسببها الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير بارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قِبَل محكمة العدل الدولية. ورغم مساعي الحكومة للتهدئة بالتوقيع على اتفاقياتٍ لوقف إطلاق النار واتفقيات سلام مع حركات مسلحة في دارفور، إلا أن الأحوال لم تهدأ في الإقليم الملتهب، فلا يكاد يتوقف أزيز الرصاص إلا ليعود من جديد.
وفيما يبرّر الجيش ومناصروه هذه الحروب بأنّها كانت ضد "متمرّدين على الدولة"، يرى كثيرٌ من السودانيين أنّ الجيش ظلّ يُقاتل أبناء شعبه منذ تأسيسه قبيل الاستقلال للحفاظ على امتيازاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ لنخبةٍ محدودةٍ من أبناء السودان.
كسر للعزلة العربية أم ارتزاق؟
ومن قبل، خلقتْ المشاركة البرّية للجيش السوداني في حرب اليمن، ضمن التحالف العربيّ بقيادة المملكة العربية السعودية في تشرين الأول/ نوفمبر من العام 2015، انقسامًا حادًا في الأوساط السودانية؛ إذ رفضه أطيافٌ من الشعب السوداني، وعدّه كثيرون "ارتزاقًا"، بينما دافعت الحكومة عن خطوتها آنذاك، قائلةً إنها جاءت بعد تنسيق بين القيادات العليا للدول المشاركة في التحالف. ونفت تعرّضها لأيّ ضغوطٍ أو إملاءاتٍ للمشاركة في العملية. فيما رأى مراقبون أن الخطوة ستُحقق مكاسب إيجابية للخرطوم فيما يتصل بكسر العزلة العربية وتحسين علاقتها مع دول الخليج، العلاقة التي توتّرت بموقف السودان من حرب الكويت عام 1991، وأشاروا إلى الفوائد الاقتصادية المحتمَلة لهذه المشاركة.
العلاقة مع الكيان الصهيوني
تثير العلاقة بين قادة الجيش والكيان الصهيوني والزيارات "السرّية" المتبادلة بين الطرفين مخاوف عديدة لدى المتابعين والمهتمين بالشأن السوداني. وفيما يرى معظمهم أن الأمر لا يخرج عن إطار "العمالة"، يُبرّر آخرون العلاقة بلغة المصالح التي لا تعرف صديقًا ولا عدوًّا دائمين.
مقتلة السبعة
وبالعودة إلى "مقتلة الجنود السبعة"، فقد وصف الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية نبيل عبدالله عرض جثث جنوده السبعة والمدني على المواطنين الإثيوبيين بـ"الخسة والدناءة"، قائلًا إنّ "هذا الموقف الغادر لن يمر من دون ردٍّ مناسب".
تباينت ردود الأفعال على الحادثة في مواقع التواصل الاجتماعي بين السودانيين بين معزٍّ وشامتٍ ومكذّبٍ للخبر
وتباينت ردود الأفعال على الحادثة في مواقع التواصل الاجتماعي بين السودانيين، بين معزٍّ وشامتٍ ومكذّبٍ للخبر. وتشير الشماتة في مقتل الجنود السودانيين إلى عمق الهوّة بين الشعب وجيشه، خاصةً في أعقاب مجزرة اعتصام القيادة العامة للجيش، على الرغم من محاولات تجسير الهوة وحملة "العلاقات العامة" التي يقودها جنرالات الجيش لتجميل صورتهم أمام الشعب، ولكن يبدو أن "الفتق اتّسع على الراتق" – كما يقول المثل.
وتُثير هذه الشماتة –فيما تثير– أسئلةً كثيفةً حول تداخل الذاتي والموضوعي في تناول السودانيين للقضايا العامة وحدود ما هو "أخلاقي" في التعليق على حوادث القتل/ الموت.
وفيما يحتجّ الشامتون بتاريخ المؤسسة العسكرية وسلوك منسوبيها تجاه المدنيين، وبدورها المحوريّ في تخلف السودان عن ركب الديمقراطية؛ إذ ظلّ الجيش حجرة عثرةٍ أمام أيّ تحوّلٍ ديمقراطي في البلاد؛ بتدبير الانقلابات العسكرية وتقويض النظم الديمقراطية وإعادة إنتاج الشموليات واحتكار الامتيازات الاقتصادية والتدخّل في الحياة السياسية إلى حد تسميته "حزب الجيش". يرى آخرون أنّ مشكلة الجيش في قيادته، ومتى أزِحنا هذه القيادة، خلى وجه الجيش خالصًا لشعبه.
أعادت ثورة ديسمبر، خاصةً الأيام الأولى لاعتصام القيادة العامة للجيش بالخرطوم؛ حيث ذاد صغار الضباط والجنود عن المعتصمين في محيط القيادة ضد هجمات كتائب نظام البشير، فجَرَت اشتباكات دامية حوّلتْ محيط القيادة إلى ساحة حرب – أعادت الثورة رسم الجيش في المخيال الشعبي بألوان زاهية. وبينما ردّ "حامد"، "محمد صديق"، "سامي"، و"كرومة" ومن قبلهم "عمر الأرباب" و"الرازي" وغيرهم ممّن سطّروا بنبلهم وشجاعتهم مواقف خالدة في سِفر تاريخنا الوطنيّ – بينما ردّ هؤلاء إلى الجيش اعتباره، ودفعوا بالمعتصمين إلى الهتاف بأعلى صوتهم "جيشٌ واحد، شعبٌ واحد"، أبت قيادة الجيش إلا أن تعود بالجيش القهقري. وقبل أن يرتدّ صدى الهتاف الشهير "الجيش جيش السودان، الجيش ما جيش كيزان – ولاحقًا ما جيش برهان"، عاد الجيش إلى تيهه القديم، ليصمت (في أحسن التأويلات) عن قتل عشرات الشباب أمام قيادته العامة واغتصاب النساء والفتيات وإذلال المدنيين الذين أقسم على حمايتهم، مغلقًا أبواب قيادته أمام المستجيرين به من نير المليشيات الإجرامية. وفي ظن بعض السودانيين، فإن الجيش لم يقف من المجزرة موقف المتفرّج بل شارك فيها ويتحمل وزرها مع المليشيات على حدٍّ سواء. أورثتْ هذه التجربة المريرة الجماهير هتافًا موغلًا في اليأس، فلم تزل تردّد بأسى: "معليش، معليش، معليش ما عندنا جيش".
مع الأسف، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تورّط الجيش في إطلاق النار على المحتجين السلميين بالأسلحة الثقيلة، في أعقاب انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وفي دهس المتظاهرين بالمدرعات ومطاردتهم في الأزقة والأحياء؛ ما حدا ببعض السودانيين على مواقع التواصل إلى تسميته "جيش الاحتلال"، في اجترارٍ لتاريخٍ مريرٍ من المجازر والانتهاكات.
وعلى الرغم من كل جرى، فإنّ في صفوف الثوار من لم يزل يؤمن ببعض الخير في الجيش، ويأمل في انحيازه يومًا ما إلى خيار الشعب في الحكم المدني الديمقراطي.
خروج الجيش من السياسة والاقتصاد، صار مطلب الجماهير الأول، بعد أن ذاقت ويلات الظلم في حكم العسكر ورأت رأيَ العين كيف تسيل دماؤهم أنهارًا وتُمتهن كرامتهم وتُهدر سيادتهم الوطنية. ولكن المؤسسة العسكرية مختطَفة من حفنةٍ من الجنرالات ومسلوبة الإرادة، وما يجري من تمددٍ لمليشيا الدعم السريع لا يرضي كثيرًا من ضباط الجيش وجنوده المخلصين.
في الأوضاع الطبيعية، ليس من إنسانٍ سويٍّ يتمنى الموت لأخيه، ناهيك عن الشماتة في موته، لكن صورة الجيش عند طيفٍ واسعٍ من الشعب السوداني –خاصةً الشباب– لم تُعد تنفصل عن شبح الموت، موت الرفاق - غدرًا وغيلة. وليس أبلغ في وصف هذا المشهد المأساويّ من صورة الشهيد "قصيّ حمدتو" الأخيرة، مضرّجًا بدمائه وعلى بعد خطوةٍ منه القبعة العسكرية التي كانت تلازمه؛ إذ تؤكّد أنّ شهداء مجزرة القيادة فوقَ موتهم مغدورين، ماتوا مخذولين. وأيّ فجيعةٍ لشعبٍ ثائرٍ أفدح من أن يُخذل في جيشه!
لا تنفصل هذه الأزمة عن ملابسات تشكّل الدولة السودانية الحديثة وظروف تكوينها واستقلالها التي لا تختلف كثيرًا عن ظروف تكوين الجيش السوداني
وعند كثيرين لا تنفصل هذه الأزمة عن ملابسات تشكّل الدولة السودانية الحديثة وظروف تكوينها واستقلالها التي لا تختلف كثيرًا عن ظروف تكوين الجيش السوداني الذي يُعدّ عندهم أحد "المخلّفات الاستعمارية"، وليس جيشًا وطنيًا، ناهيك عن أن يكون قوميًا!
كلّ هذه المقدمات تضعنا أمام تحدٍّ صعبٍ وخطير؛ تحدي تأسيس الدولة السودانية، وإبعاد السلاح عن المعادلة السياسية، وتكوين جيشٍ قوميٍّ مهنيّ، يعبّر عن السودانيين كافة، ويذود عن أرضهم، ملتزمٍ بحدوده المرسومة وفق الدستور وخاضعٍ للسلطة المدنية في الدولة وحامٍ لنظامها الديمقراطي – أو انتظار الحرب الشاملة والانهيار الكامل لما يُسمى "الدولة السودانية".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"