02-سبتمبر-2022
لوحة إدوارد ماثيو لمعركة كرري

لوحة إدوارد ماثيو هيل في تصوير معركة كرري (Wikimedia)

في مثل هذا اليوم وقبل (124) عامًا، كان خليفة المهدي حاكم أول دولة سودانية مستقلة عبد الله التعايشي، يحفز جنوده من أجل خوض معركة الكرامة ضد جيوش الغزاة بقيادة اللورد كتشنر. في معركة "كرري" أخبر الرجل أنصاره يومها قائلًا "لا نصر ولكننا سنقاتل".

دارت أحداث معركة كرري في صبيحة الثاني من أيلول/سبتمبر من العام 1898 بين قوات المهدية السودانية والقوات البريطانية التي ساندتها قوات مصرية في منطقة كرري شمال أم درمان عاصمة الدولة المهدية. وكان قوام القوات المهدية (60) ألف جندي وتعداد الجيش الإنجليزي المصري حوالي ستة آلاف جندي مسلحين بالمدافع الرشاشة والأسلحة الأوتوماتيكية الحديثة تدعمهم البواخر الحربية.

كل قذيفة انطلقت يومها خلّفت عشرات القتلى دون أن يمنع ذلك اندفاع أنصار المهدي

 بدأت المعركة في الساعة السادسة صباحًا وشن أنصار المهدي هجومًا شاملًا على القوات المحتلة، ولم يستطع أي جندي سوداني الوصول لمعسكر الغزاة وذلك لكثافة النيران. في تمام الساعة الثامنة صباحًا أي بعد ساعتين من بداية المعركة أمر كتشنر بوقف إطلاق النار بعد سقوط أكثر من (18) ألف قتيل من الأنصار إضافة إلى أكثر من (30) الف جريح. وانتهت المعركة بانسحاب الأنصار إلى غرب السودان ودخول كتشنر أم درمان عاصمة الدولة المهدية. وحسم السلاح الناري المعركة لصالح الجيش الغازي الذي أستخدم مدافع "المكسيم" الرشاشة.

"الرجال ماتوا في كرري"

جرت هذه العبارة على ألسنة السودانيين وهم يصفون تفاصيل ما حدث يومها من بسالة منقطعة النظير واجه بها السودانيون "المذبحة". وفيما عدا بضعة آلاف يحملون البنادق؛ كان الأنصار جميعهم مسلحين بأسلحة بدائية من القرون الوسطى، وبعض الأمراء كانوا يلبسون الدروع الحديدية. الجنود على الأقدام والأمراء على الخيول والجمال، جميعهم اندفعوا صوب جبال كرري الشاهقة، بصدق وفدائية، "في شان الله .. في شان الله" كما رددوا. وهنا صدر الأمر الملكي بفتح نيران البوارج ورشاشات المكسيم على جيوش المهدية، وبدأت المذبحة.

كل قذيفة انطلقت يومها خلّفت عشرات القتلى، دون أن يمنع ذلك اندفاع الأنصار، ينافحون دون جدوى لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر، يضربون الطبول ويلوحون بالأعلام ويكبرون كأنه عرس تخضبت له الأرض بالدماء، حتى إن الأمير الشَّهيد إبراهيم الخليل، مضى يشق الصفوف من فوق جواده، شاهرًا عبارته الخالدة: "الخـيرة في ما اختار الله، نصرة ما في، إلا نِحنا قدَّنا بنسدُّو".

سد فرقة الموت

يومها كان كلما سقط صف من الأنصار ردد الذي من خلفه "سدوا الفرقة". كان الموت كوراليًا يشبه شجاعة من سعوا إليه، وكان بالنسبة للأنصار الذين يرتدون الجلاليب "المرقوعة" متعددة الألوان؛ قمة النصر الذين يسعون إليه: الموت فداء الدين والوطن.

سدوا يومها فرقة الموت من أجل أن يخلدوا في الحياة كأكثر الرجال شجاعة وبسالة؛ بسالة جسدها فنان السودان الأول الراحل محمد وردي حين أنشد "كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية".

فقد الأنصار في معركة كرري أكثر (26) ألف رجل ما بين قتيل وجريح، أي نصف الجيش المقاتل، استلقى البعض منهم بهدوء واضعين أحذيتهم تحت رؤسهم في مواجهة الموت المُحدق، والبعض الآخر استشهد وهو يصلي وأرجله مقيدة حتى لا تنطلق أقدامه هاربة، وكثير منهم واجهوا الرصاص مُقبلين غير مُدبرين، وهذا دليل شجاعة ساحقة، لكنه أيضًا يضمر تخلفًا عن مواكبة المعارك الحديثة والجيوش النظامية، إذ أن الشجاعة وحدها ليست كافية في مواجهة النيران الهائلة للإمبراطورية البريطانية.

اعتراف الأعداء

يحدث التاريخ السوداني عما يزيد عن الأربعين ألفًا من الشجعان، عرفوا كيف يسدون "فرقة الموت" ويستشهدون على طريقتهم الخاصة، التي تدفع الأعداء للاعتراف بحقهم على لسان كاتب حرب النهر ونستون تشرشل: "هؤلاء أشجع رجال قابلناهم.. لم نهزمهم ولكنا قتلناهم".

وكتب المراسل الحربي الذي رافق الحملة جي. دبليو. ستيفنس: "إن جاز لي اليوم أن أقول قواتنا قد بلغت الكمال فلا بد لي أن أعترف بأن المهدويون بروعتهم فقد فاقوا حد الكمال، لقد كان جيش السودانيين في كرري من أعظم وأشجع الجيوش التي حاربتها طوال مواجهتنا الطويلة في حروب المستعمرات… كلما تساقط قتلاهم بمدافع المكسيم كانوا يجمعون صفوفهم و يتقدمون نحونا بجسارة فائقة... نعم كانت كرري هي آخر أيام المهدية؛ ولكنها كانت بحق أعظمها على الإطلاق".

غربت شمس المهدية وبقيت كرري

بنهاية المعركة غربت شمس المهدية بينما بقيت كرري تحدث عن رجال وعن دماء روت أرض "البقعة"، وعن شجاعة وبسالة وثبات في مواجهة أعتى أسلحة التدمير، وهو ما يعتبره السودانيون المشهد الباعث على الفخر بالانتماء لإرث أولئك البشر، بغض النظر عن مآلات المعركة الختامية. نعم يومها هزمت الثورة المهدية، ولكن انتصر الرجال لثباتهم، وواصلوا المقاومة وانتصروا بالموت على حياة الظلم.

يمكن أن تعقد مقارنة بين جندي يندفع نحو مدفع المكسيم وهو يردد "سدوا الفرقة" وقتها، وبين صورة لأحد حراس المتاريس في ثورة ديسمبر

وللتأكيد على أن كرري ما تزال حية في السودانيين منذ الأزل؛ يمكن أن تعقد مقارنة بين جندي يندفع نحو مدفع المكسيم وهو يردد "سدوا الفرقة" وقتها، وبين صورة لأحد حراس المتاريس في ثورة ديسمبر وهو يردد "الترس دا ما بنشال الترس دا وراه ثوار" لتجد نفس ملامح البسالة والشجاعة.